كالكتاب الواحد".
وما ننكر أن هذا كله حظ النقل والرواية. ولكن أين حظ الرأي والدراية؟ وأين مذهب الحجة، وأين فائدة التاريخ؟ وأين دليل الفصاحة من اللغات؟ وأين أدلة اللغات من أهلها؟ ... وهذه فنون لو أن الرواية امتدت بها أو بعضها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان لعلمائنا رأي محصد في هذا الأمر, وحسبه حسنة, ونظر وتدبير لقد كان الله ارتاح لنا برحمة من عملهم، وأنقذنا عن كثير لا نبرح نضطرب فيه آخر الدهر، وهيأ لنا من صنيعهم أسبابًا وثيقة إلى أبواب من فلسفة هذه اللغة وتاريخ آدابها؛ ولكن ذلك قد كان من أمرهم في اللغة خاصة، ولما بيناه في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب, لم يرو أنه يسقط شيئًا على من بعدهم، ولا رأوا أنه وكف ولا نقص1، ولا أن في باب الرأي غير ما صنعوا، فأخذوه على الجهة التي اتفقت لهم، وجاءوا به من عصرهم لا من عصره.
وقد كان هذا الشأن قريبًا منهم لو أرادوه، وذلك الأمر موطأ لهم لو اعتزموا فيه؛ ولكنه فوت قد فات, وعمل قد مات، وأمل لزمته هيهات فلم يبق لنا من بعدهم إلا أن نصنع كما صنعنا؛ فنأخذ بالجملة دون تفصيلها، ونصل القول بين الأسباب وما تسببت له، ونعتل لما جاء عن النفس بما هو في تركيب النفس ونستروح إلى ما أجمعوا عليه بالحجة التي ينصبها الإجماع ويشدها الاتفاق، ومهما أخطأنا من ذلك لم يخطئنا الكشف على أصل المعنى وثبته ووجه مذهبه، وفي هذا بلاغ، ثم لا يكون قد فاتنا في مثل هذا الفصل إلا ضرب من الكمال والتأليف، وباب من التطوع في العمل، وإنما وجه الحقيقة في ذلك الأصل لا في الأمثلة ومظهر الواجب في الفرض وحده وكم وراء الفرض من نافلة.