فما ندري أي ذلك أعجب: أن ينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة هذا الغريب من ألسنة العرب دون قومه وغير قومه ممن ليس ذلك في لسانهم، عن غير تعليم ولا تلقين ولا رواية، أو أن يكون قومه من قريش قد ضربوا في الأرض للتجارة حتى اشتق اسمهم منها1، وخالطوا العرب وسمعوا مناطقهم في أرضهم، وحين يتوافون إليهم في موسم الحج، وهم مع ذلك لا يعلمون من هذا الغريب بعض ما يعلمه، ولا يديرونه في ألسنتهم، ولا يورثونه أعقابهم فيما ينشئون عليه من السماع والمحاكاة؛ حتى كان هذا الباب فيه صلى الله عليه وسلم بابًا على حدة، كما يؤخذ كل ذلك من قول علي: "نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره"، فليس العجب في أحد القسمين إلا في وزن العجب من الآخر.

على أنا ننقل كتابًا من هذه الكتب؛ لنعرف الأمر على حقه، ولنميز اللغة السهلة التي ذهبت خشونتها وانسحقت في الألسنة، وهي لغة قريش، من هذه اللغات الغريبة التي يجمعها صلى الله عليه وسلم دون قومه، ثم لا تجري في منطقه إلا مع أهلها خاصة؛ ولا تندر في كلامه مع غيرهم، أو تغلب عليه، أو تنقص من فصاحته، أو تضعف أسلوبه، كما هو الشأن في أهل الغريب من هذه اللغة، وفيمن يتباصرون به ويتكلفون لذلك حفظه وروايته، وهم أهل التوعر والتقعير واستهلاك المعاني، الذين تسلمهم إلى ذلك طبيعة الغريب نفسه، إذ يدور في ألسنتهم ويستجيب لهم كلما مثلت معانيه، غير مختلب ولا مستكره، ويغلبهم على مراده من الكلام السهل المأنوس؛ لأنهم أكثر رغبة فيه، وأشد عناية به في الطلب والحفظ والمدرسة؛ ومتى نشطت طبيعة الإنسان لأمر من الأمور، فقد لزمها توفير قسطه من المزاولة، وتوفيه حقه من العناية به تبلغ منه البلاغ كله، وحتى يكون هو الغالب عليها، وحتى يلزمه منها في حق الاستجابة إليها، ما لزمها منه في حق العناية.

أما الكتاب الذي أشرنا إليه فهو كتابه صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر الكندي، أحد أقيال حضرموت، ومنه: "إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب ... ".

وفيه: وفي التيعة شاة لا مقورة الألياط، ولا ضناك، وأنطوا الثبجة. وفي السيوب الخمس ومن زنى مم بكر فاصعقوه مائة، واستوفضوه عامًا. ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم. ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام وائل بن حجر يترفل على الأقيال"2.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015