تأثيره في اللغة صلى الله عليه وسلم:

قد علمت مما بسطناه في مواضع كثيرة1، أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأخلصهم لغة، وأعذبهم بيانًا؛ وأنهم قد ارتفعوا عن لهجات رديئة اعترضت في مناطق العرب، فسلمت بذلك لغتهم، وإنما كان هؤلاء القوم أنضاد النبي صلى الله عليه وسلم من أعمامه وأهله وعشيرته، ثم علمت ما قلناه آنفًا في نشأته اللغوية، وما وصفناه من أمره فيها، وأن له في تلك رتبة بعيدة المصعد، فلا جرم كان صلى الله عليه وسلم على حد الكفاية في قدرته على الوضع، والشقيق من الألفاظ، وانتزاع المذاهب البيانية، حتى اقتضب ألفاظًا كثيرة لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، وهي تعد من حسنات البيان، لم يتفق لأحد مثلها في حسن بلاغتها، وقوة دلالتها، وغرابة القريحة اللغوية في تأليفها وتنضيدها، وكلها قد صار مثلًا، وأصبح ميراثًا خالدًا في البيان العربي، كقوله: مات حتف أنفه2 وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت كلمة غريبة من العرب -يريد التركيب البياني- إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول: "مات حتف أنفه" وما سمعتها من عربي قبله.

ومثل ذلك قوله في الحرب: "الآن حمي الوطيس"، وقوله: "بعثت في نفس الساعة" إلى كثير من ذلك سنقول فيه بعد. وهذا ضرب عزيز من الكلام يحتذيه البلغاء ويطبعون على قالبه؛ وكلما كثر في اللغة لانت أعطافه، واستبصرت طرق الصنعة إليه، وما من بليغ أحدث في العربية منه ما أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه واحدة في الأوضاع التركيبية، وسنبسط القول فيها.

والثانية في الأوضاع المفردة، مما يكون مجازة مجاز الإيجاز والاقتضاب؛ وهذا الباب كانت تنصرف فيه العرب بالاشتقاق والمجاز، فتضع الألفاظ وتنقلها من معنى إلى معنى، غير أنها في أكثر ذلك إنما تتسع في شيء موجود ولا توجد معدومًا؛ فلم يعرف لأحد من بلغائهم وضع بعينه يكون هو انفرد به وأحدثه في اللغة3 ويكون العرب قد تابعوه عليه، إلا ما ندر لا يعد شيئًا؛ بخلاف المأثور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015