ومن كمال تلك النفس العظيمة، وغلبة فكره صلى الله عليه وسلم على لسانه قل كلامه وخرج قصدًا في ألفاظه محيطًا بمعانيه، تحسب النفس قد اجتمعت في الجملة القصيرة والكلمات المعدودة بكل معانيها, فلا ترى من الكلام ألفاظًا ولكن حركات نفسية في ألفاظ1، ولهذا كثرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامع كلمه، كما ستعرفه، وخلص أسلوبه، فلم يقصر في شيء، ولم يبلغ في شيء, واتسق له من هذا الأمر على كمال الفصاحة والبلاغة ما لو أراده مريد لعجز عنه، ولو هو استطاع بعضه لم تم له في كل كلامه؛ لأن مجرى الأسلوب على الطبع، والطبع غالب مهما تشدد المرء وارتاض ومهما تثبت وبالغ في التحفظ.
هذا إلى أن اجتماع الكلام وقلة ألفاظه، مع اتساع معناه وإحكام أسلوبه في غير تعقيد ولا تكلف، ومع إبانة المعنى واستغراق أجزائه، وأن يكون ذلك عادة وخلقًا يجري عليه الكلام في معنى معنى وفي باب باب, شيء لم يعرف في هذه اللغة لغيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في ظاهر العادة يستهلك الكلام ويستولي عليه بالكلف، ولا يكون أكثر ما يكون إلا باستكراه وتعمل؛ كما يشهد به العيان والأثر، فكان تيسير ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم واستجابته على ما يريد وعلى النحو الذي خرج به, نوعًا من الخصائص التي انفرد بها دون الفصحاء والبلغاء وذهب بمحاسنها في العرب جميعًا.
وهذا هو الذي كان يعجب له أصحابه، ويرونه طبقة في هذا اللسان وطرازًا لا يحسنه إنسان، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال له مرة: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك؛ فمن أدبك "أي: علمك"؟ قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
وهذا خبر متظاهر، وقد مر بك، وهيهات أن يكون في العرب فصيح تعرفه فصاحته ولا يكون قد سمعه أبو بكر، متكلمًا أو خطيبًا أو منشدًا في سوق موسم أو حفل؛ فإنه رضي الله عنه في علم العرب وأنسابها وأخبارها ولغاتها وآثارها, الغاية التي ينتهي إليها ويوقف عندها، حتى لا يعدل به عدل؛ وحسبك أن أنسب العرب في صدر الإسلام، وهو جبير بن مطعم، إنما عنه أخذ ومنه تعلم، وإذا قالوا في المبالغة: أنسب من أبي بكر، فقد قالوا: أنسب الناس!
فهذا أبلغ ما ندلي به من حجة وما ندل به من خبر في هذا الباب2؛ لأنه خبر من أنسب العرب