وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك مما يستفيض فيه الكلام الإنساني، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بيانًا، وأفصحهم عربية لترى فرق ما بين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإنسانية في السعة والتمكن، فإن هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثم لا دليل عليه لمن يريد أن يستدل إلا الحسن.

ومعنى آخر وهو أننا نرى أسلوب القرآن من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء الكثيرة المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسر في كل عصر بنقص من المعنى وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين لم يكن لهم إلا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيرًا من حقائقه التي كانت مغيبة وفي علم الله ما يكون من بعد1؛ وإن ما عهد من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك ولا بعضه، بل هو كلما كان أدنى إلى البلاغة كان نصا في معناه، ثابتًا في حيزه، تجمد الكلمة أو الجملة على معنى بعينه قد يستقيم وقد ينتقص، وكيفما قلبته رأيته وجهًا واحدًا وصفة واحدة؛ لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة، وهذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين؛ وهذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه.

وأكبر السبب في ذلك أن هذا القرآن الكريم ليس عن طبع إنساني محدود بأحوال نفسية لا يجاوزها، فهو يداور المعاني، ويريغ الأساليب ويخاطب الروح بمنطقها من ألوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألف الناس بهذه الخصوصية فيه، حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق؛ وتراه في أوضاعه من أجل ذلك يستجمع درجات الفهم كأن فيه غاية لكل عقل صحيح، ولكنه في نفسه وأسرار تركيبه آخر ما يسمو إليه فهم الطبيعة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015