وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} .

ثم هو على هذا كله من أمره وأمرهم لا يتأتى إليهم بالتمويه، ولا يداخلهم بالنفاق، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا ينزل في العقيدة على حكمهم، ولا يداهن في خطابهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون وما يعبدون، ولا يحكم ذلك الأمر من ناحية الدهاء والمخاتلة، فيقرهم على طباعهم وعاداتهم، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويمد لهم في الغي مدا من أمر أعجبهم ومن شأن ما استخفهم كما يصنع دهاة السياسة وقادة الأمم، وكما صنع داهية أوروبا نابليون؛ الذي انتحل الكثلكة في حرب الفنديين، وأسلم في مصر1، وجهر بعصمة البابا في حرب إيطاليا؛ وقال مع ذلك: لو كنت أحكم شعبًا يهوديا لأعدت هيكل سليمان!

ثم يكون مع هذا كله من فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر ويستوسق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن يد وهي صاغرة للحق وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها المستنفرة وتعطف عليه بقلوبها الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفه لأحلامهم، والطاعن عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعاداتهم، وهو الذي خرج من الأمة أولًا، ثم أخرج الأمة كلها من نفسها آخرًا كما اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم.

ما عهدنا ذلك، ولا عهدنا أن الأمم تخرج من طبائعها النفسية وتستقيم لمن يتلوى لها مثل هذا الالتواء، وتدخل في أمر، وتثبت على طاعته ومحبته وهو أضعف ناصرًا وأقل عدا؛ إلا أن يغلبها على أنفسها، ويمتلك خيالها، ويستبد بتصورها؛ كيف له أن يغلب على النفس بتنفيرها، ويمتلك الخيال بالعنف عليه، ويستبد بالتصور وهو يسترذله؛ ومن أين له ذلك إلا أن يأتي الفطرة التي هي أساس هذه كلها، فيملكها، ثم يصوغها، ثم يصرفها، فإن الذي لا يدفع الطبع لا يدفع الرغبة، ومن لم يقد الأمة من رغائبها لم يقد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد ذلك من كان، وإن جهد وإن بالغ!

وهذا الذي وصفناه، أمر لو ذهبت تلتمسه في تاريخ الأرض كلها ما رأيت أسبابها الفطرية في غير أولئك العرب، ولا رأيت تحقيقه في العرب إلا من ناحية القرآن وإعجازه، بنظمه وأساليبه وافتنانه على هذه الوجوه المعجزة، التي أقل ما توصف به أنها السحر، بل السحر بعضها2 وكان ذلك فيهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015