القول في النحلة أو المذهب، فهو يعتسف لذلك ولا جرم كل طريق، ويركب كل صعب، ويتحمل من كل وجه، ويتعنت بكل آية، وليس له هم دون قوة الإقناع المنطقية، ودون الإفحام والتعجيز ومن ثم لا يبالي أن يتورد خصمه بالسفه، أو يقر له بالسخف، أو يتبسط على الباطل أو يحتجز دون الحق، ما دامت هذه كلها أدوات في صناعة الكلام، وما دام الكلام قادرًا بأدواته على أن يصنع الحق أو ما يسمى حقا، وإن كانت الصنعة فاسدة أو سقيمة، وكانت التسمية من خطأ أو ضلال.

من أجل ذلك قلنا إنه لا يستقيم لنا برهان صحيح مما نصبنا لاستقرائه في هذا الفصل، ولكن أكبر غرضنا منه أن ندل على تاريخ الكلام في القرآن وإعجازه؛ فإن ذلك واضح النسق بين السرد فيما تهيأ لنا من هذه الآراء التي نؤديها كما هي وفاء بحق التاريخ وتوفية لفائدة ما نحن بسبيله.

كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن، مقالة تعزى إلى رجل يهودي يسمى لبيد بن الأعصم فكان يقول: إن التوراة مخلوقة، فالقرآن كذلك مخلوق، ثم أخذها عنه طالوت ابن أخته وأشاعها، فقال بها بنان بن سمعان الذي إليه تنسب البنانية1، وتلقاها عنه الجعد بن درهم "مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية" وكان زنديقًا فاحش الرأي واللسان، وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن، والرد عليه، وجحد أشياء مما فيه2. وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة، وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا من بعده، إذ كان أول من تكلم بها في دمشق عاصمة الأمويين، وكان مروان "ويلقب بالحمار" يتبع رأيه، حتى نسب إليه، فقيل مروان الجعدي.

ولم تظهر بعد فتنة القول بخلق القرآن إلا زمن أحمد بن أبي دؤاد وزير المعتصم "سنة 220هـ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015