أحرف فاقرءوا ما تيسر منها". فتأمل قوله: "ما تيسر" تصب منها شرحًا طويلًا، وسنقول في هذه السبعة بعد.

ورووا أن عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى ولا ينفد لكثرة الرد, وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين1 ينهى عن شيء يأمر به الآخر كان ذلك الاختلاف, ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن؛ ولو أعلم أحدًا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى أزداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين2، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن. فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإن من جحد بآية جحد به كله.

هذا حين كان الاختلاف مما تقتضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتفضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجم لم يعد لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من الرأي، بل صار كأنه دربة لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجه ينكر من حقيقتها بما يضيف إليها أو يخلط بها أو يغير منها، وإلى هذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه القرآن العرضة الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرة لولا ما علمه الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي إلى أن انتقل إلى جوار ربه. ومن ثم اختارها المسلمون بعده وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مر، ثم تركوا للناس أسانيدهم، إذ كانت الفطرة سليمة بعد.

فلما كانت الطيرة والاختلاف لعهد عثمان، وأشفقوا من الضلال في معاسف الرأي ومعانيه، حملوا الناس عليها حملًا وكتبوا بها المصاحف كما تقدم3.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015