ومما نذكره للدلالة على بعض مزاعم العرب في آثار القبائل البائدة، ما حكاه الجاحظ في "الحيوان" قال: "زعم أناس أن من الإبل وحشيا. فزعموا أن تلك الإبل تسكن أرض وبار؛ لأنها غير مسكونة، ولأن الحيوان كلما اشتدت وحشيته، كان للخلاء أطلب، قالوا: وربما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض فيضرب في أدنى هجمة من الإبل الأهلية، فالمهرية1 من ذلك النتاج. وقال آخرون: هذه الإبل الوحشية.... من بقايا إبل وبار، فلما أهلكهم الله تعالى..... بقيت إبلهم في أماكنهم التي لا يطرقها أحد، فإن سقط إلى تلك الجزيرة بعض الخلعاء أو من أضل الطريق، حثا الجن في وجهه، فإن ألح خبلته".
وقد حقق أهل البحث من المتأخرين شيئًا من تاريخ بعض القبائل البائدة، وعينوا أزمنتها، مستندين في ذلك إلى التوراة، وما ذكره قدماء الجغرافيين، ثم إلى ما اكتشفوه آخرًا من الآثار في طرفي الجزيرة؛ وليس ذلك من غرضنا فنكتفي بالإيماء إليه.
القحطانية:
وهم عرب اليمن، ينسبونهم إلى يعرب من قحطان، وهو المذكور في التوراة باسم "يارح بن يقظان" وقحطان عند نسابة العرب ابن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
ويعرب هذا هو الذي يزعم العرب أنه أصل اللغة الفصحى، قال حسان بن ثابت:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا، فصرتم معربين دوي نفر
وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام، وكنتم كالبهائم في القفر2
وفي تاريخ هذه الطبقة القحطانية عند العرب تخليط كثير لا سبيل إلى تخليص الحقيقة منه، وقد عرف أهل البحث من علماء المتأخرين -بما أصابوه من الآثار في أطلال اليمن وبعض أطلال أشور وغيرها- أنه قامت في اليمن ثلاث دول كبرى كلها ذات شأن: وهي المعينية، والسبئية، والحميرية. والمعينيون أبعد في القدم من قحطان، ولم يعرفهم مؤرخو العرب ولا عرفوا الدولة السبئية؛ وهم