قبر ... ثم نفخه الله إنسانًا يجعله فيما يبلو به الخلق، ويضرب الحياة به ضربة انحلال وبلى وتعفن.
ومن تراه قد سخر به القدر أشد سخرية قط، فضغطه في قالب من قوالب الحياة المصنوعة فإذا هو في تصاريف الدنيا كاتب مرشد متنصح ينفث دخان قلبه الأسود ويعمل كما تعمل الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس صحفًا منشرة من غبار الأرض، إن لم تكن مرضًا فأذى، وإن لم تكن أذى فضيق، وإن لم تكن ضيقًا فلن تكون شيئًا مما يساغ أو يقبل أو يحب!
يحتجون بالعلم، وهذا العلم لا ينفي شبهة ولا يحل مسألة مما هو فوق العقل، ولا بد أن يكون للعقل "فوق" وإلا كان هو تحت المادة وسطت هي عليه وأصبحت الحياة بلا غاية والإنسانية بلا معنى، وهذا العلم كيف اعتبرته إن هو إلا ترجمة جزء من الوجود إلى الكلام والعمل، فهو لا يوجد شيئًا غير موجود؛ وإنما يكشف عن الوجود ويتسع في العبارة عنه ويحاول جعله كلا بنفسه، وما هو إلا ظاهرة من جزء من كل ما وراء الكل؛ فمن ثم كان من طبيعة البحث العلمي أن يستجر الفاسد الصحيح، ويخلط اليقين بالظن، ويضرب المقطوع به في المشكوك فيه، ومتى استقام هذا فصار عملًا، واتسق فرجع نظامًا، خرج إلى تشبيه الباطل بالحق، وتلبيس الخطأ بالصواب، فيكون من العلم ما هو علم وقت وجهل وقت بعده، وبعد منه ما هو حق في زمن على حين أنه شبهة زمن يتلوه، وهكذا ترى في الزمن العقلي شبيهًا بما يتعاور الزمن الحسي من تقلب الليل والنهار فلا يزال لكل أبيض تليه الأسود، ولكل أسود تليه الأبيض, إذا كان لا بد من طبيعتين إحداهما تجمع والأخرى تفرق، ومن قوتين إحداهما للتمثيل بين المتشابهات والأخرى للتضريب بين المتناقضات.
أي: علم هذا الذي يحتجون به وهم يرون الإنسان قد جعله عقله كونًا وحده ثم يرون في الكون الكبير يقينًا ساريًا مطردًا هو الحافظ لنظامه، الضابط لدقائقه، الممسك بمقادير أجزائه؛ فكيف يصلح الكون الصغير الإنساني إلا على يقين مثل هذا ينزل من النفس وطباعها ونظام حياتها هذه المنزلة، من الجماعة، إلى الأمة، إلى المجتمع كله، بحيث يلائم بين المتفرقات ويجانس بين المختلفات! وينقص من الزائد ويزيد في الناقص، ويقوم من الاجتماع مقام الحاكم على تلك الأسباب المجهولة التي تدفع الجماعات في كل لحظة إلى قضايا النزاع في مصالحها العالمية، وتديرها على قانون التجمع والتألف كما تديرها على قانون التفكك والتبعثر في وقت معًا.
لقد أثبت تاريخ الإنسانية أن هذا اليقين الساري فيها لن يكون غير الدين، فهو وحده معنى الجاذبية بين المعلوم الذي تبدأ النفس سيرها منه، وبين المجهول الذي تصير النفس إليه طوعًا وكرهًا؛ وما دامت الجاذبية فيه وحده فلن يستطيع شيء غيره أن يقيم حدود الإنسانية أو يحفظ ما يقيمه منها؛ وما غاية العلم إلا أن يكون قوة في هذه الحدود أو قوة لبعضها على بعضها بمنفعة أو مضرة وهي في الجملة ما اصطلحوا على تسميته بالآداب الإنسانية والأخلاق الإنسانية.
على أنك ترى أصحابنا ... لا يتحاملون على شيء ما يتحاملون على القرآن الكريم، فهم