الخامس، وقد أملى كثيرون بعد الزجاجي، وأورد السيوطي نفسه في "بغية الوعاة" في ترجمة الأديب محمد بن أبي الفرج الصقلي المعروف بالذكي "427-516هـ" وكان قيمًا باللغة وفنون الأدب، قال: إنه ورد إلى بغداد وخراسان وجال في تلك البلاد حتى وصل إلى الهند.... وحضر مرة "مجلس إملاء" محمد بن منصور السمعاني فأملى المجلس، فأخذ عليه الذكي أشياء، وقال: ليس كما تقول، بل هو كذا؛ فقال السمعاني: اكتبوا كما قال فهو أعرف به، فغيروا تلك الكلمة وكتبوا كما قال الذكي؛ فبعد ساعة قال: يا سيدي أنا سهوت والصواب ما أمليت؛ فقال: غيروه واجعلوه كما كان. فلما فرغ من الإملاء وقام الذكي، قال السمعاني: ظن المغربي أني أنازعه في الكلام حتى يبسط لسانه في كما بسطه في غيري، فسكت حتى عرف الحق ورجع إليه!
ولكن يمكن أن يقال إن خاتمة أهل الإملاء على طريقة المتقدمين هو إمام العربية في عصره أبو السعادات ابن الشجري المتوفى سنة 542هـ، وله كتاب "الأمالي" في فنون الأدب يقع في أربعة وثمانين مجلسًا.
2- الإفتاء في اللغة: أي الإجابة عما يسأل عنه اللغوي، وهي وظيفة أدبية لا مجال فيها للتاريخ، وإنما ألبسوها هذا التعبير؛ لأنها تناظر وظيفة من وظائف المحدثين والفقهاء؛ ومن أدب المفتي في اللغة أن يقصد التحري والإبانة والإفادة، والوقوف عندما يعلم والإقرار بما لا يعلم، وأن لا يحدث برأيه من غير سماع، وأن يصير في الشيء الذي لا يعرفه إلى من يعرفه غير مستنكف، وأن لا يصر على غلطه إذا أخطأ في شيء ثم بان له الصواب من بعد؛ فإن الرجوع عن الخطأ خروج إلى الصواب، وقد وصفوا الذي يصر على خطئه ولا يرجع عنه بأن "كذاب ملعون". ومتى سئل عن شيء من الدقائق التي مات أكثر أهلها فلا بأس أن يسكت عن الجواب إعزازًا للعلم وإظهارًا للفضيلة. قالوا: وإذا فسر غريبًا وقع في القرآن أو في الحديث فليتثبت كل التثبت وليتقص كل الاستقصاء؛ فإنهما هو علم لا يراد للمناقشة والشهوة ولا يبتغي به عرض الدنيا.
وليس يخفى أن تلك الآداب هي جملة الأخلاق العلمية وجماع الفضائل الأدبية، ولا تكون إلا في العالم الذي يطلب علمه لفضيلته وكرمه، وقد أخذ بها أفاضل المحدثين وأماثل الرواة، وبها محص هذا العلم العربي ونما وطرح الله في ألسنة أهله البركة، وله سبحانه الحمد والمنة.
3 و 4- الرواية، والتعليم: والمراد بهما أن يتعلم ويعلم، فيخلص النية في طلب العمل والتماسه ولا يبتغي من تعليمه المنالة والكسب، وإنما يصد إلى نشره وإحيائه، فيلزم جانب الصدق ولا يفتأ يتحرى لنفسه وينصح لغيره، وإذا كبر ونسى ولم يجد له عزمًا وخاف التخليط أمسك عن الرواية ليتحقق إخلاصه1؛ وقد نقلوا أن الرياشي رأى أبا زيد الأنصاري وقد قارب من سنه المائة فاختل