كحماد الراوية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما, وصارت الرواية علمية محضة, وبهذا تحقق معنى الإسناد في الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب.

ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعًا إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشبه من غريب القرآن والحديث، حتى لا تجد فيهم ألبتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدثون يرون أنه ليس براو عندهم من لم يرو من اللغة1؛ لأن موضوع الحديث أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا لما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مرويا بسنده أو مأخوذًا عمن يسنده؛ انتفاء مما عسى أن يرموا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالفقه والبراعة في الفتيا مفتقرة إلى الأصلين: الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي رحمه الله قال إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه.

وقد رأت تلك الطبقة التي أشرنا إليها أن ما بعث على الإسناد في الحديث قد تحقق في الأدب، من افتعال اللغة والتزيد في الأخبار والصنعة في الشعر, وأرادوا أن يطرد علمهم من ينبوع واحد، فجعلوا الصنفين سواء في الرواية وأوجبوا الإسناد فيهما جميعًا.

ولم يكن الإسناد واجبًا قبل ذلك على نحو ما هو في الحديث، وأنت تعتبر هذا بأن كل أسانيد الأدباء على اختلاف عصورهم إنما تنتهي إلى الطبقة الأولى فحسب، كأبي عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وغيرهما ممن تصدروا للرواية وكانوا ظهور هذه الصناعة في السماع والتدوين، ولا تكاد تجد رواية واحدة يتصل سندها إلى الجاهلية في شيء من الشعر والخبر, وإنما يكتفون بالنسبة إلى أولئك؛ لأنهم في أول تاريخ الرواية؛ ولأنهم جميعًا يزعمون أنهم أخذوا أكثر ما يروونه عن قوم أدركوا عرب الجاهلية أو نقلوا عمن أدركهم2. ولم يكن من سبيل إلى رد ما تناقلوه عن الجاهلية؛ لأنه كان كل ما في أيدي الرواة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015