بالأسواق "البيع والشراء"، والتصرف في التجارات، ولا لزوم الضياع والعمل في الأموال كغيره من الصحابة، فلهذا حفظ ما لم يحفظوا، وأتى عنه من الرواية ما لم يأت عن غيره منهم.

ثم كانت الفتنة أيام عثمان رضي الله عنه، واضطراب من بعدها حبل الكلام من الخلافة، وخاض الناس في ضروب من الشك والحيرة والقلق، فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت، وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة فاطمة، أو دلالة قائمة، على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والأغفال، مما هو غلط لا شوب فيه من تعمد الكذب.

وقد قال عمران بن حصين, وهو من الصحابة، توفي سنة 52هـ: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالًا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون1.

غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة؛ فكان الخطب لم يستفحل؛ حتى إذا خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقًا وجعلوا أهلها شيعًا بدءوا يتخذون من الحديث صناعة، فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب؛ ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة مما يشبه أحاديث خرافة؛ فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل هذه الوجوه في عصور مختلفة.

أما القصاص فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب من الأحاديث؛ ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبًا خارجًا عن فطر العقول، أو كان رقيقًا يحزن القلوب ويستغزر العيون؛ وللقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة.

وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المستشنعة، والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان والرومان وأساطير الهنود والفرس، ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح في العقول ولا يستقيم على النظر.

وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير وما إليه. وأمثلة ذلك كله فاشية في كتب موضوعات الحديث، ولا محل لها في هذا الفصل؛ فإنما نريد به متابعة تأريخ النشأة الأولى لعلم الرواية، وهي إنما كانت في الحديث كما علمت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015