المتون؛ ونحو ذلك مما يورث الاضمحلال، ويفقد العقل معنى الاستقلال، ويجعل القرائح كالظل المتنقل: كل آونة يقرب إلى الزوال.
وقد بلغ من أثر ذلك أن صار العلماء يجهلون حتى أسماء العلوم التي لم تمسخ على أيديهم، وخاصة في مصر؛ فهذا شيخ الإسلام محمد بن عبد البر السبكي المتوفى بدمشق سنة 777هـ يقول: إنه يعرف عشرين علمًا لم يسأله عنها بالقاهرة أحد.
ونقلوا عن القاضي عز الدين بن جماعة المتوفى سنة 819هـ -وهو الذي كان يفاخر به المصريون علماء العجم في كل فن، ويشيرون إليه في أنواع المعقول- أنه كان يقول: أعرف ثلاثين علمًا لا يعرف أهل عصري أسماءها!
وكل ذلك من وناء الهمم، واجتماع العلماء من هذه الشروح على ما يشبه تشريح الرمم، حتى ليس إلا "قال وقيل، وإن قلت قلت، وفيها قولان......" ولعمري ما جبل "قاف" إلا جزء من هذه السلسلة ... 1.
وإذا كان عمود التاريخ سياقة الحوادث كما أسلفنا، فلا تزغم هذه الحوادث على أن تقع في غير وقتها، وتنفصل عن طبيعتها، وتتصل بغير طبقتها في التاريخ؛ ولذلك رأينا الطريقة المثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضم لا التفريق، وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور؛ فنخصص الآداب بالتاريخ، لا التاريخ بالآداب كما يفعلون؛ وبذلك يأخذ كل بحث من مبتدئه إلى منتهاه، متقلبًا على كل عصوره، سواء أتسقت أم افترقت؛ فلا تسقط مادة من موضعها، ولا تقتصر على غير حقيقتها، ولا تلجأ إلى غير مكانها، ثم لا يكون بعد ذلك في التاريخ إلا التاريخ نفسه، لا ما يزين به من العبارة المونقة، ولا ما توصل به الحقائق القليلة من تصورات الخيال وشعر التآليف، إلى أمثال ذلك في مواضع الاستكراه وضيق المضطرب؛ وأمثلته فيما بين أيدينا ماثلة لا تحتاج إلى انتزاع، وهي على نفسها شاهدة فلم يبق في أمرها نزاع.
وإذا تدبرت طريقتنا هذه، وقابلت آثارها بما شئت من آثار الطريقة الأخرى، وأحكمت ذلك بعقل راجح؛ وأنعمت فيه بنظر غير مدخول رأيت أي: هذه الكتب أحسن قيامًا على تاريخ الأدب، وأوفى بالحاجة منه، وأرد بالفائدة على طالبه، وتبينت أيها أضعف منزعة من الرأي والتدبير في طريقته، بما يكشف لك خلو باطنه من ورم ظاهره، وما تجده من سرعة الاتصال في هذا "الفراغ المعنوي" بين أوله وآخره.
المؤلف