ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه. وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية اللَه كما قال عز وجل (إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ) قال ابن مسعود وغيره كفى بخشية اللَه علما وكفى بالاغترار باللَه جهلا وقال بعض السلف ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. وقال بعضهم من خشي اللَهَ فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل وكلامهم في هذا المعنى كثير جداً.
وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين أحدهما على معرفة اللَه وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضى بقضائه والصبر على بلائه والأمر الثاني المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه: فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب للَّه وانكسر له. وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما. ومتى خشع القبل للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا. وكل ما هو فان لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند اللَه من نعيم الآخرة وإن كان كريماً على اللَه كما قال ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروي مرفوعا. وأوجب ذلك أن يكون بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة. فإن سأله أعطاه وإن دعاه أجابه كما قال في الحديث الإلهي) ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه إلى قوله فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (وفي رواية) ولئن دعاني لأجيبنه (وفي وصيته صلى اللَه عليه وسلم لابن عباس) احفظ اللَه يحفظك احفظ اللَه تجده أمامك تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة (.
فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريباً منه يستأنس به في خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته. كما قيل لوهيب بن الورد يجد حلاوة الطاعة من عصى قال لا ولا من هم. ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة. فإذا سأله أعطاه. وإذا دعاه أجابه كما قالت شغوانة لفضيل والعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدنيا. وفي البرزخ. وفي الموقف فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه اللَه ذلك كله وهذا هو المشار إليه في وصية ابن عباس بقوله صلى الله عليه وسلم) تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة (وقيل لمعروف ما الذي هيجك إلى الانقطاع وذكر له الموت والقبر والموقف والجنة والنار. فقال إن ملكا هذا كله بيده كانت بينك وبينه معرفة كفاك هذا كله. فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه. وعبده كأنه يراه.
ولهذا قالت طائفة من الصحابة إن أول علم يرفع من الناس الخشوع وقال ابن مسعود إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وقال الحسن العلم علمان فعلم على اللسان فذلك حجة اللَه على ابن آدم. وعلم في القلب فذلك العلم النافع وكان السلف يقولون أن العلماء ثلاثة. عالم باللَه عالم بأمر اللَه. وعالم باللَه ليس بعالم بأمره. وعالم بأمر اللَه ليس بعالم باللَه وأكملهم الأول وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه.
فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم على ربه فيعرفه فإذا عرف ربه فقد وجده منه قريباً ومتى وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه كما في الأثر الإسرائيلي) ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء (وكان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل.
اُطلُبوا لِأَنفُسِكُم ... مِثلَ ما وَجَدتُ أَنا
قَد وَجَدتُ لِي سَكَناً ... لَيسَ في هَواهُ عَنا
إِن بَعُدتُ قَرَّبَني ... أَو قَرُبتُ مِنهُ دَنا