كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج: صف لي الفتنة حتى كأني أراها رأي العين. فكتب إليه: لوكنت شاعراً لوصفتها لك في شعري، ولكني أصفها لك بمبلغ رأيي وعلمي، الفتنة تلقح بالنجوى، وتنتج بالشكوى، فلما قرأ كتابه، قال: إن ذلك لكما وصفت، فخذ من قبلك بالجماعة، وأعطهم عطايا الفرقة، واستعن عليهم بالفاقة، فإنها نعم العون على الطاعة، فأخبر بذلك أبو جعفر المنصور فلم يزل عليه حتى مضى لسبيله.
قال بعض الحكماء من ملوك الفرس، لحكيم من حكماء مملكته: أي الملوك أحزم؟ قال: من غلب جدُّه هزله، وقهر لبُّه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن خطئه، ولاغضبه عن كيده.
لما أراد عمرو بن العاص المسير إلى مصر، قال له معاوية: إني أريد أن أوصيك. قال: أجل. فأوص. قال: انظر فاقة الأحرار فاعمل في سدها، وطغيان السفلة فاعمل في قمعها، واستوحش من الكريم الجائع واللئيم الشبعان، فإنما يصول الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.
قال بعض الحكماء: الرعية للملك كالروح للجسد، فإذا ذهب الروح فني الجسد.
وروى الهيثم بن عديّ، عن مجالد، عن الشعبي، قال عمر بن الخطاب: دلّوني عن رجل أستعمله فقد أعياني أمر المسلمين. قالوا له: عبد الرحمن بن عوف، قال لهم: ضعيف، قالوا له: فلان. قال: لا حاجة لي به. قالوا:فمن تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنّه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كان كأنه أميرهم. قالوا: ما نعلمه إلا الرّبيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم.
قال أبو عمر: والربيع بن زياد هذا، كان فاضلا جليلا في قومه، ولاَّه معاوية خراسان، فاستكتب الحسن بن أبي الحسن فكان كاتبه، فلما بلغه قتل معاوية حجر بن عديّ، قال: الَّلهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجّل، فزعموا أنه لم يبرح من مجلسه حتى مات. كتب بعض ملوك العجم إلى ملك آخر منهم: قلوب الرعية خزائن ملوكها، فما أودعوها فليعلموا أنه فيها.
قال الإسكندر لأرسطاطاليس: أوصني. قال: فانظر من كان له عبيد فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعةٌ فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
وقال بعض الحكماء: لا تصغِّر أمر من جاء يحاربك، فإنك إن ظفرت لم تحمد وإن عجزت لم تعذر.
قيل لكسرى ذي الأكتاف، وكان ضابطاً لمملكته: بم ضبطت ملكك؟ قال: بثمان خصال، لم أهزل في أمر ولا نهي، ولم أخلف وعداً ولا وعيداً، وولّيت للغنى لا للهوى، وعاقبت للأدب لا للغضب، وأوطأت قلوب الرعية الهيبة من غير ضغينة، وملأتها محبة من غير جرأة، وأعطيتها القوت، ومنعتها الفضول.
قال عبد الملك بن عمير: سمعت زياداً وهو يخطب، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي ملّكنا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا، فلنا عليكم الطاعة فيما أحسنَّا، ولكم العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا بطاعتكم ومحض ودّنا بمناصحتكم، ومهما قصَّرت فيه من أداء حقكم فلن أقصر في ثلاث: لست محتجباً عن ذي حاجة ولو أتاني طارقاً بليل، ولا مجمِّراً لكم جيشاً، ولا حابساً عنكم عطاء ولا رزقاً لإبّانة، فادعوا الله لأئمتكم بالصلاح، فإنهم ساستكم المذبُّون وكهفكم الذي إليه تأوون، فإن تصلحوا يصلحوا، ولا تشعروا قلوبكم بغضتهم فيشتدَّ عيظكم، ويطول حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، فإنه لو استجيب لكم فيهم كان شراً لكم، نسأل الله أن يعين كلاًّ على كلّ.
كان يقال: ينبغي للملك أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة عند الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن بإحسانه، والعمل بالأناة فيما يحدث له، فإن له في تأخير العقوبة إمكان العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان: المسارعة إلى الطاعة، وفي الأناة انفساح الرأي وإيضاح الصواب. كان يقال: من سعى بدليل في التدبير لم يقعد به إلاّ سابق قضاء لا يملك.
ذكر المبرّد قال: كان بعض عقلاء ملوك الفرس إذا شاور من قد رتّبهم لمشورته فقصّروا في الرأي، دعا الذين قد وكّلهم في أرزاقهم فعاقبهم، فيقولون: يخطئ أهل مشورتك فتعاقبنا نحن. فيقول: نعم. إنهم لم يخطئوا إلاّ بتعلق قلوبهم بأرزاقهم فإذا اهتمُّوا لحاجاتهم أخطأوا.