ولم يستغل محمدةً بمالٍ ... ولو كانت تحيط بكلِّ ماله
عيال الله أكرمهم عليه ... أبثُّهم المكارم في عياله
وللفقيه أبي عمر بن عبد البر رضي الله عنه:
تعفُّف المرء عن سؤاله ... وكسبه الحلّ باحتياله
وسعيه في الصلاح عيشٍ ... لمن يواريه من عياله
مروءةٌ وبالغٌ بها ... من يبلغها منتهى كماله
ومن يصن وجهه يزنه ... صيانة الوجه من جماله
رضي الفتى بالقضاء عزٌُّ ... وذلَّة الوجه في ابتذاله
ولأبي دلف العجلي:
بلوت مرارة الأشياء طرّاً ... فما شيءٌ أمرّ من السُّؤال
ولم أر في الخطوب أشدّ هولاً ... وأصعب من معاداة الرِّجال
وقال أعرابي:
علام سؤال النَّاس والرِّزق واسع ... وأنت صحيحٌ لم تخنك الأصابع
وفي العيش أوطارٌ وفي الأرض مذهبٌ ... عريضٌ وباب الرِّزق في الأرض واسع
فكن طالباً للرِّزق من رازق الغنى ... وخلِّ سؤال النَّاس فالله صانع
وحج هارون الرشيد، فأرسل إلى سفيان بن عيينة فأمره أن يحدث بنيه، فقال يا أمير المؤمنين قد سألني الناس فامتنعت عليهم، ولكني أجلس لبنيك وللناس، فقال: نعم. فلما جلس صاح به الناس: سألناك الجلوس لنا فأبيت علينا، فلما جاءك المال والجائزة جلست. فقال للمستملي: أنصتهم لي. فصاح المستملي: صه صه. فسكت الناس، فأخرج سفيان بن عيينة رأسه إليهم، وقال: حدثني الزهري، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما شيءٌ أحل وأطيب من ثلاثة:صداق الزوجة، والميراث، وما أتاك الله به من غير مسألة، فإنه رزق ساقه الله إليك ".والله ما جئت هذا الرجل ولا سألته شيئاً من ماله، ولو وجّه إليّ شطر ماله لقبلته، ثم أدخل رأسه ولم يحدثهم في ذلك الموسم بشيء.
أشخص المنصور سواراً القاضي من البصرة إلى بغداد في شيء أراد أن يشافهه فيه، فمر بواسط، وفيها يحيى بن سعيد الأنصاري يتولى القضاء، فدلَّ عليه، فقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ قال: نعم يعفيني من القضاء. فقال سوار للمنصور إذ قدم عليه، وكلمه فيما أراد: يا أمير المؤمنين! الأنصار تعلم ما يجب في حقهم. قال: هيه. قال: يحيى بن سعيد تعفيه من القضاء. قال:قد أعفيته. فلما انحدر سوار مرّ بواسط، فقال ليحيى بن سعيد: قد أعفاك أمير المؤمنين. فقال: لا جزاك الله خيراً عن صبية من الأنصار كانوا يقتاتون هذه الست مائة درهم في كلّ شهر.
كأنه أراد أن يعرّض ولا يحقّق.
كان الحسن البصريّ رحمه الله يقول: لا يردّ جوائزهم إلاّ أحمق أو مراءٍ، وقد ذكرنا من رأى قبول جوائز السلطان من أئمة أهل العلم، ومن تورع عن ذلك منهم في كتاب " التمهيد " والحمد لله.
قال مطرِّف بن الشِّخير: إذا كانت لأحدكم إليّ حاجة فليرفعها في رقعة ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في وجه أحدكم ذل المسألة.
وقد روي عن يحيى بن خالد بن برمك مثل ذلك، وتمثل:؟ مااعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السُّؤال مع النوال وزنته ... رجح السُّؤال وخفّ كلُّ نوال
لبعض الكتاب إلى عبد الله بن طاهر:
ولقد علمت وإن نصبت لي المنى ... أنّ الخصاصة لا تداوى بالمنى
فلئن وفيت لأنهضنَّ بشكركم ... ولئن أبيت لأحملنَّ على القضا
فأنجز له عبد الله بن طاهر عدته.
قال الحسن بن عبيد البغدادي:
صن الوجه الّذي إن لم تصنه ... بقيت وأنت في الدُّنيا ذليل
وعش حراً ولا يحملك ضرٌ ... على مرعىً له غبٌّ وبيل
فليس الرّأي إلاَّ الصَّبر حتّى ... يديل اليسر من عسرٍ مديل
أليس لكلِّ آفلةٍ طلوعٌ ... بلى ولكل طالعةٍ أفول
وكان أبان بن عثمان رحمه الله يتمثل:
مالي تلادٌ ولا استطرفت من نشبٍ ... وما أؤمِّل غير الله من أحد
إني لأكرم وجهي أن أوجِّهه ... عند السُّؤال لغير الواحد الصَّمد
عزّ القناعة والإيمان يمنعني ... من التَّعرُّض للمنَّانة النَّكد