روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، قال: خرجت في الجاهلية بتجارة إلى الشام فنزلت في بعض الطريق لقضاء حاجة، وتقدمتني القافلة، فإني لكذلك إذ أقبل إلى راهب على أتانٍ له قد خرج في بعض الزيارات يريد فلسطين وهو يذهب عطشاً، وكان يوماً صائفاً، فسلم على واستسقاني ماء. ولم يكن معي غير فضلة في إداوةٍ معلقة على كفل الفرس، فآثرته بها، وتبين له ذلك، فشكر لي فعلى، وشكا تعباً لحقه، وأنه يريد النزول والراحة قليلا، وهو خائف من الوحدة وفساد الطريق، وكأنه أراد الأنس بي. فقلت له: انزل فإني أونسك ولا أتركك. وكنت عارفاً بالطريق، فعرجنا إلى ظل شجرة أرزٍ فعرسنا تحتها، وقلت: أعينه، ثم ألحق القافلة بعد تعريسها بساعة، وكان له غلام ورحل قد تأخرا عنه، فكان مع ذلك ينتظر، فلما نزلنا استلقى على جنبه ونام، وركبت فرسي أطلب بعض الحياض التي كنت أعرفها لأملأ إداوتي منها، فوجدت واحداً منها فملأت الإداوة، ورجعت والراهب نائم بحاله، وإذا بثعبان عظيم يسير إليه لينهشه، فاخترطت سيفي ونزلت إليه فلحقته، وقد كاد ينقره فقتلته، وجلست أخفر الراهب إلى أن قام وقد استراح من تعبه، فعرضت عليه الماء فشرب، ونظر إلى الثعبان فهاله أمره، فعرفته أنه قصده وأني قتلته فشكر، وقال: قد أحييتني مرتين، ووجب حقك علي، قد حبست نفسك علي، ونزلت معي حتى استرحت، وآنستني من الوحدة ووحشة الطريق، وأنا مع ذلك في غربة. ولا أدري بماذا أكافئك، ثم ركبنا وسرنا فما لحقنا القافلة إلا مساء، وطلبت رحلي وغلاماً كان معي إلى أن وجدته، فأنزلت الراهب معي إلى أن أصبحنا، فجاءه غلامه ورحله، فقال لي: أين تريد؟ فعرفته أني أريد دمشق بتجارةٍ معي، فسألني عنها فأخبرته، فقال لي: أي تريد؟ تدخل معي إلى مصر فإن لي بها حالا جميلة وجاهاً عريضاً، ولعلي أكافئك على ما أوليتني، فإن يدي تقصر هاهناعن مكافأتك، وعلي أن أربحك في تجارتك ضعف ما تأمله من الربح منها، فوقع كلامه بقلبي، فقلت له: على أن تخرج معي من يكفلني ويحملني في طريقي، أو تضيفني إلى من يبلغني هذا هذا المكان، فإني إذا بلغته عرفت الطريق إلى موضعي. قال: بل أردك إليه من طريق هو أقرب من طريقك هذا. فسرت معه فرأيت رجلاً جميل الصحبة والمرافقة، وكان فيه مع ذلك فهم وعلم، وكان من أبناء القبط الأولين، وكان يخبرني عن مصر وأهلها في القديم، وعن عجائبها وطلسماتها وملوكها، وخبر بخت نصر وكيف دخل البلد وأخذه بالحيلة التي تمت له حتى وصل إليه وما كان بعد ذلك، ولم نزل في أنس إلى أن دخلنا مصر، فلم نكن نمر بموضع ولا ديرٍ إلا تلقونا بالإكرام والجميل، وعدينا النيل، وسرنا حتى دخلنا الإسكندرية، فأنزلني عنده وأتاه جماعة من أهله وذوي قرابته وجماعة من وجوه أهل البلد، وكان مقدماً عندهم، فسلموا عليه وهنأوه بالسلامة وقضوا حوائجه وأكرموه وأتحفوه، ولم يكن يدخل إليه أحد من أهله وغيرهم إلا أخبرهم بخبري، وأني خلصته من العطش بما كان معي من الماء، وأني آثرته على نفسي، وخبرهم بما كان من أمر الثعبان. فما منهم أحد إلا برني وأكرمني. واجتمعت لي دنانير كثيرة، ووجه أقاربه وباع منهم ومن غيرهم البضاعة التي كانت معي، وأفضلت فيها فضلاً كثيراً، وأقمت أكثر من شهر وأنا أطوف بالإسكندرية، وأنظر إلى عجائبها ومنارها ثم استأذنته للخروج، فقال لي: إن لنا عيداً وقد حضر، فأقم عندي حتى تشاهده وأوجه معك من يخفرك إلى حدود أرض الحجاز، فأجبته إلى ذلك، وحضر العمد، وزينت كنائس الإسكندرية، وخصوا منها كنيسة مرخمة عظيمة كانوا يجتمعون إليها بأحدث الزي، وكان خارج الكنيسة أسطوان كبير واسع مفروش بالبسط، وقد جلس عليه رؤساؤهم وبطارقتهم، وكان من عاداتهم أن يضربوا خارج الأسطوان في فسيح هناك بصولجان وكرةٍ تطير إلى ذلك الأسطوان، فمن وقعت في حجره الكرة من أولئك البطارقة والرؤساء، حكم له بولاية مصر، قال عمرو: فأجلسني وسط أولئك الوجوه والبطارقة فإني لمشغول بالنظر إليهم وإلى زيهم، وأولئك خارج الأسطوان يضربون تلك الكرة إذ طارت إلى فسقطت في حجري فأكبروا ذلك، وجعلوا يتأملوني ويعجبون مني، ومن سقوط الكرة في حجري، ثم ردوا الكرة إلى خارج، وضربوها أيضاً مرة أخرى، فطارت حتى سقطت ثانية، فازدادوا عجباً، وجعل بعضهم ينظر إلى بعضٍ ويزمزمون بكلامهم، وأنا لا أعرف ما يقولون. ثم