ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر إلى وراءك الالتفات، ولا تقف على الجماعات، واحذر كثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس في الصلاة وغيرها. وليكن مجلسك هادئًا، وحديثك منظومًا مرتبًا. وأصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط. ولا تسأله إعادته. واسكت عن المضاحك والحكايات. ولا تحدث عن إعجابك بولدك وشعرك وكلامك وتصنيفك وسائر ما يخصك. ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين. ولا تتبذل تبذل العبد. وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن. ولا تلح في الحاجات. ولا تشجع أحداً على الظلم. ولا تُعلم أحدًا من أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك. واجفهم من غير عنف. ولِن لهم من غير ضعف. وإذا خاصمت فتوقر. وتحفظ من جهلك وعجلتك. وتفكر في حُجتك. ولا تكثر الإشارة بيدك. وإذا هدأ غضبك فتكلم. وإذا قربك السلطان فكن منه على حد السنان. وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء، ولا يجعل مالك أكرم من عرضك. واعلم أن من استوى يوماه فهو مغبون.
وأخيرًا أتحفك بهذه الوصية الغالية، فعض عليها بالنواجذ. وقد رواها الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه "الزهد الكبير" من طريق طاهر بن الفضل بن سعيد الغني قال: سمعت سفيان ابن عيينة رحمه الله يقول: لما بلغت خمس عشرة سنة قال لي أبي:
((يا بني! قد انقطعت عنك شرائع الصبا. فاختلط بالخير تكن من أهله. ولا تزايله فتبين منه. ولا يغرنك من مدحك بما تعلم أنت خلافه منك؛ فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير ما لم يعلم منه إذا رضي، إلا قال فيه من الشر على قدر ما مدحه إذا سخط.