وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَ إلا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إلا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} الآيَةُ
عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَأَجَابَوا عَنْ الآيَةِ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بالمواريث. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ فِي الآيَةِ. وَالْحَدِيثُ يَخْتَصُّ بِمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ شَرْعِيٌّ يَخْشَى أَنْ يَضِيعَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يُوصِ بِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَنَحْوِهِمَا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٌ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بِعَيْنِهِ الْخُرُوجُ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلْغَيْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَنْجِيزٍ أَوْ وَصِيَّةٍ. قَالَ: وَعُرِفَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً. وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً فِيمَنْ رَجَا مِنْهَا كَثْرَةَ الأَجْرِ، وَمَكْرُوهَةً فِي عَكْسِهِ، وَمُبَاحَةً فِيمَنْ اسْتَوَى الأَمْرَانِ فِيهِ، وَمُحَرَّمَةً فِيمَا إذَا كَانَ فِيهَا إضْرَارٌ كَمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ. انتهى.
قَوْلُهُ: «وَتَأْمُلُ» بِضَمِّ الْمِيمِ: أَيْ تَطْمَعُ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّ تَنْجِيزَ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّصَدُّقِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهُ حَالَ الْمَرَضِ وَفِي مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ» .
قَوْلُهُ: «فَيَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَزَجْرٌ بَلِيغٌ وَتَهْدِيدٌ، لأَنَّ مُجَرَّدَ الْمُضَارَّةِ فِي الْوَصِيَّةِ إذَا كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ النَّارِ بَعْدَ الْعِبَادَةِ الطَّوِيلَةِ فِي السِّنِينَ الْمُتَعَدِّدَةِ فَلا شَكَّ أَنَّهَا مِنْ أَشَدِّ الذُّنُوبِ، فَمَا أَحَقُّ وَصِيَّةِ الضِّرَارِ بِالإِبْطَالِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ وَمَا فَوْقَهُ.
3275- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ إلَى الرُّبُعِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.