قَوْلُهُ: «يَخْطَفَانِ الْبَصَرَ» أَيْ يَطْمِسَانِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إلَيْهِ لِخَاصِّيَّةٍ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي بَصَرِهِمَا إذَا وَقَعَ عَلَى بَصَرِ الإِنْسَانِ.
قَوْلُهُ: «فَحَرِّجُوا عَلَيْهِنَّ ثَلاثًا» ، وَالْمُرَادُ بِهِ الإِنْذَارُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي: لا تَقْتُلُوا حَيَّاتِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا بِإِنْذَارٍ كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الأحَادِيثِ، فَإِذَا أَنْذَرَهَا وَلَمْ تَنْصَرِفْ قَتَلَهَا. وَأَمَّا حَيَّاتُ غَيْرِ الْمَدِينَةِ فِي جَمِيعِ
الأرْضِ وَالْبُيُوتِ فَيُنْدَبُ قَتْلُهَا مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ لِعُمُومِ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الأمْرِ بِقَتْلِهَا، إلى أنْ قَال: وَخُصَّتْ الْمَدِينَةُ بِالإِنْذَارِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا. وَسَبَبُهُ مَا صُرِّحَ بِهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ طَائِفَةٌ مِنْ الْجِنِّ بِهَا. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى عُمُومِ النَّهْيِ فِي حَيَّاتِ الْبُيُوتِ بِكُلِّ بَلَدٍ حَتَّى تُنْذَرَ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي الْبُيُوتِ فَيُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ. قَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا فِي الْمَسَاجِدِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الأمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّاتٍ مُطْلَقًا مَخْصُوصٌ بِالنَّهْيِ عَنْ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ إِلا الأبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ الإِنْذَارِ. قَالَ الشَّارِح: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ الأصُولِيُّ فِي مِثْلِ أَحَادِيثِ الْبَابِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَرْجَحُ. وَأَمَّا صِفَةُ الاسْتِئْذَانِ فَقَالَ الْقَاضِي: رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَقُولُ: «أُنْشِدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَنْ تُؤْذِنَّنَا وَأَنْ تَظْهَرْنَ لَنَا» وَقَالَ مَالِكٌ: يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ لا تَبْدُوَا لَنَا وَلا تُؤْذِيَنَا.
وَتَبْوِيبُ الْمُصَنِّفِ فِي الْبَابِ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الأمْرَ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ مِنْ أُصُولِ التَّحْرِيمِ قَالَ الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ: أُصُولُ التَّحْرِيمِ إمَّا نَصُّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الأمْرُ بِقَتْلِهِ كَالْخَمْسَةِ وَمَا ضَرَّ مِنْ غَيْرِهَا فَمَقِيسٌ عَلَيْهَا أَوْ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ كَالْهُدْهُدِ وَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلَةِ وَالنَّمْلَةِ وَالصُّرَدِ أَوْ اسْتِخْبَاثُ الْعَرَبِ إيَّاهُ كَالْخُنْفِسَاءِ وَالضُّفْدَعِ وَالْعِظَايَةِ وَالْوَزَغِ وَالْحِرْبَاءِ وَالْجِعْلانِ وَكَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالزُّنْبُورِ وَالْقَمْلِ وَالْكَتَّانِ وَالنَّامِسِ وَالْبَقِّ وَالْبُرْغُوثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} وَهِيَ مُسْتَخْبَثَةٌ عِنْدَهُمْ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَكَانَ اسْتِخْبَاثُهُمْ طَرِيقَ تَحْرِيمٍ، فَإِنْ اسْتَخْبَثَهُ الْبَعْضُ اعْتُبِرَ الأكْثَرُ، وَالْعِبْرَةُ بِاسْتِطَابَةِ أَهْلِ السَّعَةِ لا ذَوِي الْفَاقَةِ.