{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] إذْ الْآثَارُ مَا يَتْبَعُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ وَحَبْسٍ وَقَفُوهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَأَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْإِطْلَاقُ.
وَمُقْتَضَى الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الثَّانِي عَدَمُ الِانْقِطَاعِ مُطْلَقًا أَيْ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَبَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطْلَقَ فِي مِثْلِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَوْ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ وَحْيِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فَيُتَأَمَّلْ (وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا) لِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَكْتَسِبَ مَا يَزِيدُ لَهُ حُسْنًا فَفِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَزِدْ عُمُرُهُ لَهُ خَيْرًا فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ (حَدّ هق عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ» فَيُكْرَهُ ذَلِكَ وَقِيلَ يَحْرُمُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ إزَالَةِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ مِنْ جَزِيلِ الْفَوَائِدِ وَجَلِيلِ الْعَوَائِدِ كَيْفَ وَفِي زِيَادَةِ الْحَيَاةِ زِيَادَةُ الْأَجْرِ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا اسْتِمْرَارُ الْإِيمَانِ لَكَفَى فَأَيُّ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْهُ ثُمَّ هَذَا إنْ لِضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ وَإِنْ لِضَرَرٍ دِينِيٍّ فَلَا بَأْسَ وَقَدْ أُشِيرَ آنِفًا مَا اُسْتُفِيضَ عَنْ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ مِنْ تَمَّنِي الْمَوْتِ شَوْقًا إلَى لِقَاءِ الْحَضْرَةِ الْمُتَعَالِيَةِ الْأَقْدَسِيَّةِ وَلَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ لِمَقَامِ الْخَوَاصِّ هَذَا وَلَيْسَ لَك أَنْ تَقُولَ إذَا كَانَتْ الْآجَالُ مُقَدَّرَةً لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّمَنِّي لِأَنَّ هَذَا هُوَ حِكْمَةُ النَّهْيِ لِكَوْنِهِ عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَفِيهِ كَرَاهَةُ الْمَقْدُورِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ وَلَا يَشْكُلُ عَلَى كَوْنِهِ عَبَثًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعُمُرِ لِتَقْدِيرِهِ قَوْلَ النَّبِيِّ فِي الْيَهُودِ لَوْ تَمَنَّوْهُ لَمَاتُوا جَمِيعًا لِأَنَّ ذَاكَ بِوَحْيٍ فِي خُصُوصِ أُولَئِكَ لِتَرْتِيبِ آجَالِهِمْ عَلَى وَصْفٍ إنْ وُجِدَ مَاتُوا وَإِلَّا فَلَا فَالْأَسْبَابُ مُقَدَّرَةٌ كَمَا أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ مُقَدَّرَةٌ (فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ) أَيْ مَحَلَّ الِاطِّلَاعِ عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ كَالْقَبْرِ وَوَقْتِ النِّزَاعِ (شَدِيدٌ وَإِنَّ مِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمُرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقُهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ) أَيْ الرُّجُوعَ مِنْ الْمُخَالَفَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ وَمِنْ الْغَفْلَةِ إلَى الذِّكْرِ وَهَذَا شَأْنُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُقَرَّبِينَ كَمَا قَالَ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] .
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ) فِي الْأَحَادِيثِ لِمَنْ تَمَنَّى الْمَوْتَ (لِضَرَرٍ دُنْيَوِيٍّ نَزَلَ بِهِ وَأَمَّا إنْ خَافَ عَلَى دِينِهِ مِنْ الْفَسَادِ) فَتَمَنَّى لِأَجْلِ هَذَا (فَجَائِزٌ) لِيَحْفَظَ دِينَهُ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا تَمَنَّى لِلْوُصُولِ إلَيْهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَشْكُلُ بِمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا كِفَايَةِ اسْتِمْرَارِ الْإِيمَانِ فِي الْفَضْلِ (بِرّ) ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (عَنْ عُلَيْمٍ) صِيغَةُ تَصْغِيرٍ (الْكِنْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ كُنْت جَالِسًا مَعَ أَبِي عَنْبَسٍ الْغِفَارِيِّ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (عَلَى سَطْحٍ فَرَأَى نَاسًا يَتَحَمَّلُونَ) أَيْ يَتَكَلَّفُونَ فِي حَمْلِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْأَعْنَاقِ (مِنْ الطَّاعُونِ فَقَالَ) شَوْقًا لِمَوْلَاهُ