وَالْمَنْكَحُ وَضَرُورَاتُ الْمَعِيشَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَاجَاتِ إذَا لَمْ تَتَيَسَّرْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْصَرِفًا إلَى تَدْبِيرِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِلدِّينِ (وَبِهِ يُصَانُ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ) ، وَقَدْ عَرَفْت آنِفًا (وَبِهِ يُنَالُ دَرَجَاتُ الْمُتَصَدِّقِينَ) بَلْ يَلْحَقُ بِهِمْ الَّذِينَ لَهُمْ قُرْبَةٌ خَاصَّةٌ بِهِ تَعَالَى (وَبِهِ يُوصَلُ الرَّحِمُ) الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْفَضَائِلِ (وَبِهِ يُدْفَعُ حَاجَاتُ الْفُقَرَاءِ) الْمُحْتَاجِينَ؛ وَلِقَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَوَائِدُ جَمَّةٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ (وَيَقْضِي دُيُونَهُمْ) فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَوْنِ الْبِرِّ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (وَيُذْهِبُ هُمُومَهُمْ) الَّتِي تُهَيِّئُ لِلْوُصُولِ (وَغُمُومَهُمْ) الَّتِي قَدْ وَقَعَتْ وَمَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ تَعَالَى (وَيُسَلِّي قُلُوبَهُمْ) مِنْ مُضَايَقَةِ الْفَقْرِ، وَأَفْكَارِ الدَّيْنِ وَمِنْ خَوْفِ نَفَقَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ (وَبِهِ يَحْصُلُ نَفْعُ النَّاسِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ) الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ بَيْتٍ لِلَّهِ، وَإِعَانَةٌ لِلْخَلْقِ عَلَى أَفْضَلِ طَاعَاتِهِمْ، وَأَقْرَبِ قُرُبَاتِهِمْ وَقَدْ جَاءَ «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» (وَالْمَدَارِسِ) ، وَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً لَكِنْ قَدْ عَرَفْت سَابِقًا مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا مِنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ بَلْ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ لِإِعَانَتِهَا عَلَى أَفْضَلِهَا وَهُوَ الْعِلْمُ مُطْلَقًا (وَالرِّبَاطَاتِ) لِسُكْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْيَتَامَى، وَإِجْرَاءِ الصَّدَقَاتِ عَلَيْهِمْ (وَالْقَنَاطِرِ) عَلَى الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ (وَسَدِّ الثُّغُورِ) أَيْ مَوَاضِعِ الْمَخَافَةِ مِنْ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ قِيلَ وَدَارِ الْمَرْضَى وَنَصْبِ الْجِبَابِ فِي الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْقَافِ الْمُرْصَدَةِ لِلْخَيْرَاتِ، وَهِيَ مِنْ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ الدَّرَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمُسْتَجْلِبَةِ لِبَرَكَةِ أَدْعِيَةِ الصَّالِحِينَ إلَى أَوْقَاتٍ مُتَمَادِيَةٍ وَنَاهِيك بِهِ خَيْرًا فَهَذِهِ جُمْلَةُ فَوَائِدِ الْمَالِ فِي الدِّينِ سِوَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مِنْ الْخَلَاصِ مِنْ حَقَارَةِ الْفَقْرِ وَالْوُصُولِ إلَى الْعِزِّ وَالْمَجْدِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَثْرَةِ الْإِخْوَانِ وَالْأَعْوَانِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْوَقَارِ وَالْكَرَامَةِ فِي الْقُلُوبِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَالُ مِنْ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ أَوْصَافٌ مَادِحَةٌ لِلْمَالِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْقُرْآنِ خَيْرًا، وَقَدْ عَلِمْت آفَاتِ الْمَالِ وَغَوَائِلَهُ قُلْت قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِبَيَانِ آفَاتِ الْمَالِ، وَفَوَائِدِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ مِثْلُ حَيَّةٍ فِيهَا سُمٌّ وَتِرْيَاقٌ فَمَنْ عَرَفَ فَوَائِدَهَا وَغَوَائِلَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ شَرِّهَا وَيَسْتَدِرَّ مِنْ خَيْرِهَا أَمَّا الْفَوَائِدُ فَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ يَعْرِفُهَا كُلُّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا يَتَهَالَكُونَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْأَوَّلُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ إمَّا فِي الْعِبَادَاتِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَوْ فِي الِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ كَالْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَنْكَحِ وَضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّمَا حُظُوظُ الدُّنْيَا مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ.
الثَّانِي: مَا يَصْرِفُهُ إلَى النَّاسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا الصَّدَقَةُ وَثَانِيهَا الْمُرُوءَةُ كَالضِّيَافَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِعَانَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الدِّينِيَّةِ إذْ بِهِ يَكْتَسِبُ الْإِخْوَانَ وَالْأَصْدِقَاءَ، وَصِفَةُ السَّخَاءِ وَالْجُودِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ فَفِيهَا مَثُوبَاتٌ أَيْضًا وَثَالِثُهَا وِقَايَةُ الْعِرْضِ كَدَفْعِ هَجْوِ الشَّاعِرِ أَوْ سَبِّ السُّفَهَاءِ، وَقَطْعِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَفَائِدَتُهَا دِينِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ فِي وِقَايَةِ الْعِرْضِ مَنْعَ الْمُغْتَابِ وَدَفْعَ آفَةِ الِانْتِقَامِ وَرَابِعُهَا الِاسْتِخْدَامُ إذْ الْإِنْسَانُ لَوْ تَوَلَّى جَمِيعَ مَصَالِحِهِ لَضَاعَتْ أَوْقَاتُهُ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ حَتَّى نَسْخِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَالٍ يَدْفَعُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْحَوَائِجِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ الْخَيْرُ لِلْعَامَّةِ كَبِنَاءِ نَحْوِ الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ مِنْ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ هَذِهِ هِيَ الدِّينِيَّةُ مَعَ مَا فِي الْمَالِ مِنْ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ مِنْ الْخَلَاصِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَحَقَارَةِ الْفَقْرِ وَالْوُصُولِ إلَى الْعِزِّ وَالْمَجْدِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَثْرَةِ الْإِخْوَانِ وَالْأَعْوَانِ وَالْكَرَامَةِ وَالْوَقَارِ، وَأَمَّا الْآفَاتُ فَإِمَّا دِينِيَّةٌ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ الْمَعَاصِي فَإِنْ اقْتَحَمَ ذَلِكَ هَلَكَ، وَإِنْ صَبَرَ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ.
الثَّانِي أَنَّهُ يَجُرُّ إلَى التَّنَعُّمِ فِي الْمُبَاحَاتِ ثُمَّ يَأْلَفُهُ ثُمَّ يَجُرُّ الْبَعْضَ إلَى الْبَعْضِ حَتَّى لَا يَكْفِيَهُ الْحَلَالُ فَيَقْتَحِمَ الشُّبُهَاتِ فَيَدْعُوَ إلَى الرِّبَا فَضْلًا عَنْ الشُّبُهَاتِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ تُؤْذِي.
الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ