فَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبَتْهَا ... وَإِذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
وَقَالَ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى ... فَإِنْ تُوَقِّتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ
، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالزُّهْدِ فَإِنَّ الزُّهْدَ عَلَى الزَّاهِدِ أَحْسَنُ مِنْ الْحُلِيِّ عَلَى النَّاهِدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ طَاوُسٍ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ بَدَلَ قَوْلِهِ تُتْعِبُ الْقَلْبَ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَالدُّنْيَا عَذَابٌ حَاضِرٌ يُؤَدِّي إلَى عَذَابٍ مُنْتَظَرٍ فَمَنْ زَهِدَ فِيهَا اسْتَرَاحَتْ نَفْسُهُ وَصَارَ عَيْشُهُ أَطْيَبَ مِنْ عَيْشِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الزَّاهِدَ فِيهَا مَلِكٌ حَاضِرٌ إذْ الْعَبْدُ إذَا مَلَكَ شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ فَهُوَ الْمَلِكُ عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمِلْكِ حُرٌّ وَالْمَلِكُ الْمُنْقَادُ لِشَهْوَتِهِ وَغَضَبِهِ عَبْدُهُمَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي صُورَةِ مَالِكٍ يَقُودُهُ زِمَامُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يُقَادُ الْبَعِيرُ وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ
أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَهْ ... وَمِنْ نَصَبِ الْمَتَاعِبِ فِي اسْتِرَاحَهْ
إذَا أَبْصَرْتَهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا ... هُمُو أَهْلُ الْمَكَارِمِ وَالسَّمَاحَهْ
وَفِي رِوَايَةِ الْقُضَاعِيِّ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو الرَّغْبَةُ فِيهَا تُكْثِرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَالْبَطَالَةُ تُقْسِي الْقَلْبَ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَأَمَّا الْعَارِفُ فَلَا قِيمَةَ لِلزُّهْدِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا قُسِمَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَخَلُّفُهُ وَمَا لَا فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فَاسْتَرَاحَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا لَا تَزِنُ عِنْدَهُمْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ قِيلَ:
تَجَرَّدَ عَنْ مَقَامِ الزُّهْدِ قَلْبِي ... فَأَنْتَ الْحَقُّ وَحْدَك فِي شُهُودِي
وَأَزْهَدُ فِي سِوَاك وَلَيْسَ شَيْءٌ ... أَرَاهُ سِوَاك يَا سِرَّ الْوُجُودِ
وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَقَرَ كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَعْظِيمِهِ فَرَآهُ لِشِدَّةِ حَقَارَتِهِ عَدَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَزْهَدْ فِي شَيْءٍ بَلْ اسْتَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَهُوَ الْكَامِلُ وَتَمَامُهُ فِيهِ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ) أَشَدُّهُمْ زُهْدًا (قَالَ «مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى» مَصْدَرُ بَلَى يَبْلَى إذَا صَارَ خَلَقًا مُفْتَنًا أَيْ لَمْ يَنْسَ كَوْنَ الْقَبْرِ مَكَانَهُ وَكَوْنَهُ فِيهِ عِظَامًا بَالِيَةً
«وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ مَا يَبْقَى» ، وَهُوَ الْآخِرَةُ «عَلَى مَا يَفْنَى» ، وَهُوَ الدُّنْيَا «، وَلَمْ يَعُدَّ» أَيْ لَمْ يَحْسِبْ «غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ» كِنَايَةً عَنْ قِصَرِ الْأَمَلِ مِنْ أَيَّامِهِ «، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى» لِقُوَّةِ خَوْفٍ مِنْ مَوْلَاهُ، وَقُوَّةِ رَغْبَتِهِ فِي تَشْيِيدِ أُخْرَاهُ.
(خ م عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى مِنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَاحِدُ الْعُرُوضِ أَيْ الْأَمْوَالِ «، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ الْغِنَى النَّافِعُ أَوْ الْعَظِيمُ هُوَ غِنَى النَّفْسِ فَمَنْ اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ تَرَكَ الْمَطَامِعَ (م عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَازَ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ «مَنْ أَسْلَمَ» فَنَجَا مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فَوَّضَ جَمِيعَ أُمُورِهِ إلَيْهِ تَعَالَى قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَّضَ «وَرُزِقَ كَفَافًا» أَيْ مَا يَكْفِ عَنْ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ الضَّرُورَاتِ وَالْفَاقَاتِ