هُوَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ إلَّا مَنْ فَقَدَ الْيَقِينَ سَاءَ ظَنُّهُمْ بِرَبِّهِمْ فَبَخِلُوا وَتَلَذَّذُوا بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِطُولِ الْأَمَلِ - {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120]- وَالْمُرَادُ أَنَّ غَلَبَةَ الْبُخْلِ وَالْأَمَلِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ لِلْهَلَاكِ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ وَالْحِرْصِ وَحُبِّ الْمَالِ الْمُؤَدِّي إلَى الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَقِينُ تَيَقُّنُ كَوْنِهِ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْمُتَكَفِّلُ لِلْأَرْزَاقِ فَمَنْ تَيَقَّنَهُ لَمْ يَبْخَلْ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَالِ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ وَطُولِ الْأَمَلِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ تَلَوْتُ عَلَى أَعْرَابِيٍّ {وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات: 1] فَلَمَّا بَلَغْتُ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قَالَ حَسْبُك، وَقَامَ إلَى نَاقَتِهِ فَنَحَرَهَا وَوَزَّعَهَا عَلَى مَنْ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَعَمَدَ إلَى سَيْفِهِ فَكَسَرَهُ وَوَلَّى فَلَقِيتُهُ بِالطَّوَافِ قَدْ نَحَلَ جِسْمُهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَاسْتَقْرَأَنِي السُّورَةَ فَلَمَّا بَلَغْتهَا صَاحَ، وَقَالَ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ غَيْرُ هَذَا فَقَرَأْتُ - {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23]- فَصَاحَ، وَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ ذَا الَّذِي أَغْضَبَ الْجَلِيلَ حَتَّى حَلَفَ قَالَهَا ثَلَاثًا فَخَرَجَتْ مَعَهَا رُوحُهُ. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْجَاهِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْأَمَلِ وَالْعَاقِلُ يَعْتَمِدُ عَلَى الْعَمَلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَمَلُ كَالسَّرَابِ غُرَّ مَنْ رَآهُ وَخَابَ مَنْ رَجَاهُ قِيلَ إنَّ قِصَرَ الْأَمَلِ حَقِيقَةُ الزُّهْدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَرَ أَمَلُهُ زَهِدَ وَيَتَوَلَّدُ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ الْكَسَلُ عَنْ الطَّاعَةِ وَالتَّسْوِيفُ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا وَنِسْيَانُ الْآخِرَةِ، وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ رِقَّتَهُ وَصَفَاءَهُ إنَّمَا يَقَعُ بِتَذَكُّرِ الْمَوْتِ فَاجْتَهِدْ فِي الطَّاعَةِ وَارْضَ بِمَا قَلَّ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْأَمَلُ مَذْمُومٌ إلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْلَاهُ لَمَا صَنَّفُوا ثُمَّ حَاصِلُ الْحَدِيثِ كَوْنُ الْبُخْلِ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ خَفِيفٌ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ غَرِيبًا وَضَعِيفًا، وَعَنْ الْمُنْذِرِيِّ إسْنَادُهُ مُهْمَلٌ لِلتَّحْسِينِ وَمَتْنُهُ غَرِيبٌ.
(تَتِمَّةٌ) رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَإِذَا رَجُلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ يَقُولُ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ اغْفِرْ لِي قَالَ وَمَا ذَنْبُك قَالَ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْوَصْفِ قَالَ صِفْهُ قَالَ إنِّي رَجُلٌ ذُو ثَرْوَةٍ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَإِنَّ السَّائِلَ لَيَأْتِينِي فَكَأَنَّمَا يَسْتَقْبِلُنِي بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَحَّ عَنِّي حَتَّى لَا تُحْرِقَنِي بِنَارِك فَوَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ رَسُولًا لَوْ قُمْت بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ثُمَّ صَلَّيْت أَلْفَ عَامٍ وَتَبْكِي حَتَّى تَجْرِيَ مِنْ عُيُونِك الْعُيُونُ، وَأَنْتَ بَخِيلٌ لَئِيمٌ لَكَبَّك اللَّهُ عَلَى النَّارِ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى جَنَّةَ عَدْنٍ قَالَ تَزَيَّنِي فَتَزَيَّنَتْ فَنَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ تَكَلَّمِي فَقَالَتْ طُوبَى لِمَنْ دَخَلَنِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِزَّتِي لَا أُسْكِنُك بَخِيلًا» .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْمٍ شَرًّا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ وَجَعَلَ أَرْزَاقَهُمْ بِأَيْدِي بُخَلَائِهِمْ.
وَقَالَ كَعْبٌ مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ اللَّهُمَّ عَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا؛ وَلِمُنْفِقٍ خَلَفًا، وَعَنْ بِشْرٍ الْحَافِي الْبَخِيلُ لَا غِيبَةَ لَهُ وَالنَّظَرُ إلَى الْبَخِيلِ يُقْسِي الْقَلْبَ وَمُدِحَتْ امْرَأَةٌ بِأَنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ إلَّا أَنَّ فِيهَا الْبُخْلَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا خَيْرُهَا إذَنْ، وَعَنْ الْمُعْتَزِّ أَبْخَلُ النَّاسِ بِمَالِهِ أَجْوَدُهُمْ بِعَرْضِهِ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَا فِي الْقَلْبِ لِلْأَسْخِيَاءِ إلَّا حُبٌّ، وَلَوْ فُجَّارًا وَمَا لِلْبُخَلَاءِ إلَّا بُغْضٌ، وَلَوْ أَبْرَارًا كُلُّهُ مِنْ الْإِحْيَاءِ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِك أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» .
(وَأَمَّا سَبَبُ الْبُخْلِ فَحُبُّ الْمَالِ) لِذَاتِهِ وَالْمَيْلُ إلَى الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، وَلَذَّاتِهَا وَالْحِرْصُ عَلَى الْبَقَاءِ وَطُولُ الْأَمَلِ (لَا لِلتَّصَدُّقِ) ، وَلَا لِلصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ كَالْوَقْفِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ وَالْقَنَاطِرِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ مِنْ الرَّجُلِ» ، وَإِنَّ لِلْغَنِيِّ عِبَادَاتٍ لَيْسَتْ لِلْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ جَامِعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ بِالْمَالِ عَلَى حَبِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ - {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8]- كَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بِالْهُدَى؛ وَلِذَا اخْتَارَ الْغِنَى كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ، وَأَيُّوبَ وَشُعَيْبٍ، وَأَيْضًا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى رُوِيَ