أَيْ الْقُرْآنَ وَجْهُ الْأَحْسَنِيَّةِ إمَّا لِكَوْنِ نَظْمِهِ مُعْجِزًا وَإِمَّا لِكَوْنِ مَعْنَاهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَخْبَارِ الْغُيُوبِ وَالْمَاضِينَ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحْوَالِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] بَدَلٌ مِنْ أَحْسَنَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْإِعْجَازِ وَالصِّحَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ وَفِي تَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا آخَرَ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ وَقِيلَ يُشْبِهُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُرَى اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ نَحْوُ {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]- فَالْأُولَى تُفْهِمُ إمْكَانِ الْعَدَالَةِ وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ.
وَنَحْوُ - {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] مَعَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35]- لِأَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ وَنَحْوُ - {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]- وَغَيْرِهَا وَنَحْوِ اخْتِلَافُ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَمَقَادِيرِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَنَحْوِهَا مِنْ وُجُوهِ الْقُرْآنِ الَّتِي يُرْوَى فِيهَا تَنَاقُضٌ وَاخْتِلَافٌ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا - {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]- وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذُكِرَ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ قُلْنَا لَا اخْتِلَافَ فِيمَا ذُكِرَ أَصْلًا فَإِنَّ التَّسَاؤُلَ فِي مَوْطِنٍ وَعَدَمِهِ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ مِنْ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ التَّعْدِيلَ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِ النِّسَاءِ وَعَدَمِهِ فِي الْمَيْلِ الْعَقْلِيِّ الْقَلْبِيِّ وَهُوَ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالْوَجَلِ عِنْدَ خَوْفِ ذَهَابِ الْهُدَى وَالزَّيْغِ وَإِنَّ النَّاسَ سُكَارَى مِنْ الْأَهْوَالِ مَجَازًا وَلَيْسُوا بِسُكَارَى مِنْ الشَّرَابِ حَقِيقَةً.
وَقَالَ فِي الْإِتْقَانِ عَنْ الْكَرْمَانِيِّ الْمَنْفِيُّ عَنْ الْقُرْآنِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الدَّاعِي إلَى التَّنَاقُضِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّلَاؤُمِ الَّذِي هُوَ تَوَافُقُ الْجَانِبَيْنِ نَحْوُ اخْتِلَافِ وُجُوهِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ مَنْفِيٍّ مِنْ الْقُرْآنِ وَبِالْجُمْلَةِ الْمَنْفِيُّ اخْتِلَافٌ بِالذَّاتِ كَالْفَصَاحَةِ وَعَدَمِهَا وَالدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالشِّعْرِ وَعَدَمِهِ نُقِلَ عَنْ الْغَزَالِيِّ {مَثَانِيَ} [الزمر: 23] جَمْعُ مَثْنَى أَوْ مُثَنَّى صِفَةُ مُتَشَابِهًا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى السُّوَرِ وَالْآيَاتِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ الْمَثَانِي مِنْ التَّثْنِيَةِ أَوْ الثَّنَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُكَرَّرُ قِرَاءَتِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَقَصَصِهِ وَمَوَاعِظِهِ أَوْ يُثْنَى عَلَيْهِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْإِعْجَازِ أَوْ يُثْنَى فِي التِّلَاوَةِ فَلَا يَمَلُّ أَوْ يَشْمَلُ الْمُزْدَوِجَاتِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَذِكْرِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} [الزمر: 23] وَصْفٌ ثَالِثٌ لِلْكِتَابِ أَيْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ {جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ وَتَعْظِيمًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الْخَازِنِ الْمُرَادُ مِنْ الْجُلُودِ الْقُلُوبُ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُوَ مَثَلٌ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ الْخَشْيَةِ أَغْنَى عَنْ الْقُلُوبِ لِأَنَّهَا شَأْنُهَا وَقَرَنَهَا فِي {ثُمَّ تَلِينُ} [الزمر: 23] تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ {جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] لِزَوَالِ الْخَشْيَةِ وَمَجِيءِ الرَّجَاءِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ بِالرَّحْمَةِ وَعُمُومِ الْمَغْفِرَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ أَصْلَ أَمْرِهِ الرَّحْمَةُ وَإِنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ عَلَى غَضَبِهِ وَالتَّعَدِّيَةُ بِإِلَى لِتَضْمِينِ مَعْنَى السُّكُونِ وَالِاطْمِئْنَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ لِتَقَدُّمِ الْخَشْيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَوَارِضِهِ وَعَنْ الْخَازِنِ أَيْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ جُلُودُ الْخَائِفِينَ وَتَلِينُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالرَّحْمَةِ وَقِيلَ تَقْشَعِرُّ عِنْدَ الْخَوْفِ وَتَلِينُ عِنْدَ الرَّجَاءِ وَعَنْ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ مِنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا وَفِي رِوَايَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ.
وَقِيلَ السَّائِرُونَ فِي جَلَالِ اللَّهِ إذَا نَظَرُوا إلَى عَالَمِ الْجَلَالِ طَاشُوا وَإِذَا لَاحَ لَهُمْ أَثَرٌ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ عَاشُوا أَوْ تَقْشَعِرُّ جُلُودُ السَّالِكِينَ عِنْدَ الْقَبْضِ وَتَلِينُ عِنْدَ الْبَسْطِ {ذَلِكَ} [الزمر: 23] أَيْ الْكِتَابُ {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23] شَرَحَ صَدْرَهُ لِقَبُولِ الْهِدَايَةِ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} [الزمر: 23] بِأَنْ يَخْذُلَهُ بِخَلْقِ الضَّلَالَةِ