(مِنْ وَقَاهُ) وَقْيًا وَوِقَايَةً صَانَهُ مِنْ قَبِيلِ اشْتِقَاقِ الْمَصْدَرِ مِنْ الْفِعْلِ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ أَوْ التَّقْوَى لَيْسَ بِمَصْدَرٍ بَلْ اسْمٌ كَالْعَلَمِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ وَاتَّقَيْت الشَّيْءَ وَتَقَيْتُهُ حَذِرْته وَالِاسْمُ التَّقْوَى أَصْلُهُ تَقْيَا قَلَبُوهُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ: وَأَصْلُ تَقْوَى هُوَ الْوَقْوَى بِالْوَاوِ مَصْدَرُ الْوِقَايَةُ يُقَالُ وَقَى وِقَايَةً وَوَقْوَى عِوَضٌ عَنْ الْوَاوِ تَاءٌ كَمَا فِي الْوُكْلَانِ وَالتُّكْلَانِ (فَاتَّقَى) يَتَّقِي أَصْلُهُ اوْتَقَى يَوْتَقِي عَلَى افْتَعَلَ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى لَفْظِ الِافْتِعَالِ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ لَفْظِ الْحَرْفِ فَجَعَلُوهُ اتَّقَى يَتَّقِي بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِثَالًا يُلْحِقُونَهُ بِهِ فَقَالُوا تَقِيَ يَتَّقِي مِثْلُ قَضَى يَقْضِي كَذَا نُقِلَ عَنْ الصِّحَاحِ (وَالْوِقَايَةُ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ (فَرْطُ الصِّيَانَةِ) مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ (أَصْلُهَا وَقْيًا) مَصْدَرُ وَقَاهُ (قُلِبَتْ وَاوُهَا تَاءً كَمَا فِي تُكْلَانَ) أَصْلُهُ وُكْلَانُ مَصْدَرُ وَكَلَ الْأَمْرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَّضَهُ إلَيْهِ.
(وَتُجَاهُ) أَصْلُهُ وُجَاهُ مِنْ الْمُوَاجَهَةِ (وَ) قُلِبَتْ (يَاؤُهَا) أَيْ يَاءُ وَقْيًا (وَاوًا كَمَا فِي بَقْوَى) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَبْقَيْت عَلَى فُلَانٍ إذَا ارْعَوَيْت عَلَيْهِ وَرَحِمْته (وَأَلِفُهَا) أَيْ التَّقْوَى (لِلتَّأْنِيثِ) مِثْلُ حُبْلَى فَغَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ تَقُومُ مَقَامَ عِلَّتَيْنِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} [التوبة: 109] بِالْقَصْرِ بِلَا تَنْوِينٍ لِعَدَمِ الِانْصِرَافِ {مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 109] وَفِي الشَّرِيعَةِ لَهَا مَعْنَيَانِ عَامٌّ) أَيْ لِأَنْوَاعِهَا (وَهُوَ الصِّيَانَةُ) أَيْ الْحِفْظُ (وَالِاجْتِنَابُ) أَيْ التَّبَاعُدُ (عَنْ كُلِّ مُضِرٍّ فِي الْآخِرَةِ فَلَهُ عَرْضٌ) سِعَةٌ (عَرِيضٌ) وَاسِعٌ كَظِلٍّ ظَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ (يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ) بِحَسَبِ الْمُحَافَظَةِ وَالتَّقْيِيدِ فِي اكْتِسَابِ الصَّالِحَاتِ (وَالنُّقْصَانُ) بِحَسَبِ تَرْكِ بَعْضِهَا (أَدْنَاهُ) بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَنْقِيصُهُ (الِاجْتِنَابُ عَنْ الشِّرْكِ) أَيْ مُطْلَقُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إمَّا بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ أَعْظَمِ أَجْزَائِهِ (الْمُخَلِّدُ) الْمُوجِبُ لِخُلُودِ صَاحِبِهِ (فِي النَّارِ) بِمُوجِبِ عَدْلِهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ وَخَبَرِهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَيْهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ
الظَّاهِرُ وَصْفُ تَوْضِيحٍ أَوْ ذَمٍّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا احْتِرَازًا عَنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ كَالرِّيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخَلِّدٍ وَكَالذُّهُولِ فِي نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِسْبَتُهَا إلَى أَسْبَابِهَا اسْتِقْلَالًا (وَأَعْلَاهُ) أَيْ الْعَرْضُ الْمَذْكُورُ (التَّنَزُّهُ) التَّبَرِّي (عَمَّا) عَنْ كُلِّ شَيْءٍ (يَشْغَلُ سِرَّهُ) قَلْبَهُ (عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى) بِآثَارِ تَجَلِّيَاتِهِ الْجَلَّالِيَّةِ وَالْجَمَالِيَّةِ بِحَيْثُ لَوْ طَرَأَ غَيْرُهُ وَلَوْ أَنَّا لِأَجْلِ الذُّهُولِ يُتَدَارَكُ مِنْ فَوْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَيَعُدُّهُ إسَاءَةً كَالْكَبِيرَةِ فَيَتُوبُ وَيَتَضَرَّعُ لَهُ تَعَالَى وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَالتَّبَتُّلُ إلَيْهِ بِشَرَاشِرِهِ) أَيْ الِانْقِطَاعُ إلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ.
وَنُقِلَ عَنْ الْقَامُوسِ: الشَّرَاشِرُ النَّفْسُ وَالْأَثْقَالُ وَالْمَحَبَّةُ وَجَمِيعُ الْجَسَدِ فَلِلْجَمْعِ هُنَا وَجْهٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} [المزمل: 8]- وَذَلِكَ بِاسْتِغْرَاقِ الْوَقْتِ وَالْأَحْوَالِ فِي ذِكْرِهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ أَوْ اللِّسَانِ مَعَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ قَدَّسَ اللَّهُ أَسْرَارَهُمْ دُونَ الْغُلَاةِ وَالْمُتَشَقِّقَةِ سَامَحَ اللَّهُ مُعَامَلَتَهُمْ.
(وَهُوَ التَّقِيُّ الْحَقِيقِيُّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ قُصُورٌ وَلَا فُتُورٌ فِي الْأَفْعَالِ