(إنْ كُنْت صَادِقًا فِي دَعْوَاك) فِي دَعْوَى الطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ أَوْ دَعْوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَوِصَالِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَالدُّخُولِ فِي زُمْرَتِهِ وَشَفَاعَتِهِ (أَكْبِبْ) لَازِمْ (عَلَيْهَا) عَلَى التَّقْوَى فَإِنَّك قَدْ عَرَفْت أَنَّ زِمَامَ كُلِّ خَيْرٍ بِيَدِهَا وَحُصُولَ كُلِّ مُرَادٍ سُخِّرَ بِهَا (وَصِرْ عَاشِقًا) شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ (مُسْتَهْتِرًا) مُسْتَدِيمًا (لَهَا) بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُهَا وَلَوْ فَارَقْت عَجِّلْ وِصَالَهَا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَك صَبْرٌ وَقَرَارٌ عِنْدَ فِرَاقِهَا كَالْعَاشِقِ مَعَ الْمَعْشُوقِ (بِحَيْثُ لَا يُعَوِّقُك عَنْهَا عَائِقٌ أَصْلًا) مِنْ الْعَوْقِ أَيْ مَانِعٌ وَلَوْ عَظِيمًا قَوِيًّا فَرَجِّحْهَا عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِك عِنْدَ عُرُوضِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ (وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَنْعِ عَنْ التَّقْوَى فَإِنَّ فَوَائِدَ التَّقْوَى وَمَنَافِعَهَا كَمَا عَرَفْت يَقْتَضِي أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُهُ اسْتِقْلَالًا أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُرَاجَعَةَ وَالِاسْتِمْدَادَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَدْرَكَ فَقَالَ، وَلَكِنَّ {اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي} [فاطر: 8] مِنْ فَضْلِهِ (مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ) يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ

فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُهُ عَدَمُ نَفْعِ سَعْيِ الْعَبْدِ وَعَدَمُ اقْتِدَارِهِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْصِيَةِ بِالْجِدِّ وَالسَّعْيِ، وَأَنَّهُ جَبْرٌ قُلْنَا قَدْ مَرَّ الْجَوَابُ فِي مَوَاضِعَ وَقَدْ عَرَفْت الْجَبْرَ الْمُتَوَسِّطَ وَالْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ لِلْعَبْدِ وَالتَّخْصِيصَ بِالْخَيْرِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ بِيَدِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَمَطْمَحُ النَّظَرِ وَقِيلَ سَكَتَ عَنْ الشَّرِّ تَأَدُّبًا وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الشَّرَّ بِيَدِ النُّفُوسِ وَالنُّفُوسُ بِيَدِهِ تَعَالَى فَالْخَيْرُ مِنْهُ تَعَالَى بِالذَّاتِ وَالشَّرُّ مِنْهُ بِالْوَاسِطَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] قُلْت لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَايَةِ السَّخَافَةِ كَمَا عُرِفَ فِي الْكَلَامِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (الْأَخْبَارُ) .

لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى أَرَادَ بَيَانَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْوَى لِيُعْلَمَ تَطَابُقُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَخْبَارُ، أَيْ الْأَخْبَارُ مَا سَيَذْكُرُ أَوْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ أَوْ الْمُبْتَدَأِ فَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ أَصْلٌ وَالْخَبَرُ وَقْفٌ تَابِعٌ فَالْمَذْكُورُ مُبْتَدَأٌ، وَمَنْ رَجَّحَ الثَّانِيَ يَقُولُ الْمُبْتَدَأُ مَعْلُومٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِفَادَةِ هُوَ الْخَبَرُ فَهُوَ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ بَعْضُ الْأَخْبَارِ أَوْ جِنْسُ الْأَخْبَارِ الْمُرَادُ حُصُولُهُ فِي ضِمْنِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ الِاسْتِغْرَاقُ أَيْ جَمِيعُ الْأَخْبَارِ الَّذِي وَصَلَ إلَى الْمُصَنِّفِ لَمْ يَبْعُدْ كُلَّ بُعْدٍ (حَدّ) أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الْغِفَارِيِّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ اُنْظُرْ» اعْتَبِرْ «فَإِنَّك لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ» إمَّا لِأَصَالَتِهِمَا فِي أَلْوَانِ الْإِنْسَانِ وَالْمَقْصُودُ شُمُولُ الْكُلِّ أَوْ الْأَحْمَرُ الْإِنْسُ لِغَلَبَةِ الدَّمِ فِي الْأَجْسَامِ التُّرَابِيَّةِ وَالْأَسْوَدُ الْجِنُّ لِغَلَبَةِ النَّارِ فِي الْأَجْسَامِ الْهَوَائِيَّةِ أَوْ الْأَحْمَرُ سُكَّانُ الْمُدُنِ وَالْقُرَى وَالْأَسْوَدُ سُكَّانُ الْبَوَادِي أَوْ الْأَحْمَرُ النِّسَاءُ لِرَاحَتِهِنَّ وَالْأَسْوَدُ الرِّجَالُ لِتَعَبِهِمْ فِي الْمَعِيشَةِ أَوْ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ «إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ» تَصِيرُ فَاضِلًا عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ «بِالتَّقْوَى» وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِتَقْوَى بِلَا لَامٍ أَيْ تَزِيدُ عَلَيْهِ فِي وِقَايَةِ النَّفْسِ عَمَّا يَضُرُّهَا فِي الْآخِرَةِ وَمَرَاتِبِهَا كَمَا سَتَعْرِفُهَا ثَلَاثَةٌ التَّوَقِّي عَنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ، ثُمَّ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ عَنْ مَا يَشْغَلُ السِّرَّ عَنْ الْحَقِّ تَقَدَّسَ فَالتَّقْوَى أَمْرٌ يَفْضُلُ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى الْكُلِّ فَمَنْ كَانَ أَسْبَقَ فِيهَا فَأَسْبَقُ فِي الْفَضْلِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015