آلِ عِمْرَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] حَقَّ خَوْفِهِ بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ لَا مَحَالَةَ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا قَالُوا بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ «حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ عَلَى الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالُوا لَا نُطِيقُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولُوا كَمَا تَقُولُ الْيَهُودُ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وَلَكِنْ قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فَنَزَلَتْ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] فَكَانَتْ أَعْظَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأُولَى فَسَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فَصَارَتْ نَاسِخَةً فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةٍ
وَقِيلَ إنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ نَعَمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَقَّ تُقَاتِهِ أَدَاءُ مَا كَانَ فِي طَاقَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ تَفْسِيرًا لَهُ لَا نَاسِخًا وَلَا مُخَصِّصًا وَالنَّسْخُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَسْتَحِقُّهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ لِلْعَبْدِ كَذَا قَالُوا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ سَبَبِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ هُوَ الْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لِلْعَبْدِ فَهَلْ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ لَا يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَأَنَّ النَّسْخَ الْأَصَحَّ أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ بِالسَّمْعِ، وَأَنَّك قَدْ سَمِعْت أَنَّ ذَلِكَ رَأْيٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآثَارِ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَوْ مُنْقَطِعٌ وَالرِّوَايَةُ الْوَاحِدَةُ فِي جَنْبِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَوْ مُقَابِلِهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَافْهَمْ ذَلِكَ وَفِي التَّغَابُنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا سَمِعْت كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قِيلَ نَسَخَ هَذَا قَوْلَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ لِمَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قَامُوا حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ
أَقُولُ كَمَا نَبَّهَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا أَمْكَنَ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ غَايَتُهُ نِهَايَةُ مَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ الْعَبْدِ كَيْفَ، وَقَدْ رَفَعَ عَنَّا التَّكَالِيفَ الشَّاقَّةَ كَالْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ رَفَعَ كُلَّ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَأَرَادَ الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ لَعَلَّ لِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْبَيْضَاوِيُّ لِنَسْخِهَا.
وَقَالَ أَيْ اُبْذُلُوا فِي تَقْوَاهُ جُهْدَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْضًا مَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ هَذِهِ الْآيَاتُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ آيَةً لَكِنَّ دَلَالَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى الْمُرَادَةِ لَيْسَتْ بِظَاهِرَةٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَى بَعْضِهَا وَأَيْضًا لَا يَظْهَرُ فِي الْكُلِّ تَرْتِيبُ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا أَنْ يُرَادَ فَضْلُ مُطْلَقِ التَّقْوَى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي سَيَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ
وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ مَوَاقِعَ التَّقْوَى فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ إجْمَالًا وَعَرَفْت مَا ذَكَرْنَا تَفْصِيلًا مِنْ الثَّلَاثِ وَالسِّتِّينَ وَمَا فِي ضِمْنِهَا مِنْ الْفَضْلِ وَالْفَوَائِدِ (فَمَا مِنْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ) الْمُوجِبَةِ لِرِضَاهُ تَعَالَى مِنْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةِ (أَكْثَرُ ذِكْرًا) مِنْ حَيْثُ ذَاتِهَا (وَثَنَاءً عَلَيْهَا) مِنْ حَيْثُ فَضْلِهَا وَمَدْحِهَا (فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ التَّقْوَى) لَعَلَّ هَذَا إمَّا إضَافِيٌّ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْإِيمَانِ وَلَفْظَ الْأَعْمَالِ وَالطَّاعَةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّقْوَى (فَتَأَمَّلْ) أَيُّهَا الْمُشْتَاقُ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَالطَّالِبُ رِضَا اللَّهِ وَالسَّالِكُ إلَى طَرِيقِ اللَّهِ (فِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ) عِبَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ مُقَايَسَةً (كَيْفَ كَانَ الْمُتَّقِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَكْرَمَ) وَأَشْرَفَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُولَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لِثُبُوتِ سَبْقِيَّتِهِ فِي التَّقْوَى عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّصِّ كَانَ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الْخَلَائِقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَالْفَضْلُ دَائِرٌ عَلَى التَّقْوَى فِي مَرَاتِبِهَا (وَ) كَانَ (مَقْبُولَ الطَّاعَةِ) إلَى أَنْ يَنْحَصِرَ الْقَبُولُ إلَى التَّقْوَى بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (وَ) كَانَ (وَلِيَّهُ) بَلْ حَصَرَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِمْ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] (وَحَبِيبَهُ) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فَانْظُرْ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فَإِنَّهَا رُتْبَةُ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ (وَكَيْفَ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَلِيًّا) بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَتَيْنِ (وَمُحِبًّا) بِمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا