وَمَسَائِلُ خَفِيَّةٌ تَشْتَبِهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْأَيَّامِ.
قُلْنَا الْمُرَادُ أَصْلُهُمَا أَوْ جِنْسُهُمَا أَوْ إضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سَيُذْكَرُ وَكَانَ الرَّاجِحُ عَدَمَ الْخَفَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْكُتُبِ وَأَمَّا مَا سَيَذْكُرُهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبٍ مَا بَلْ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ فَكَأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لِذَلِكَ فَقَطْ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُهُ هُنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْأُولَى الْحَقُّ أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَالثَّانِيَةِ الْبَاقِيَةُ يَعْنِي الدَّارَ الْآخِرَةَ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الشُّرُورِ هُوَ الِاسْتِغْرَاقُ فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعٌ فَيُفَرِّطُونَ إلَخْ وَلَوْ أَوَّلَ ذَلِكَ فَلَا يَحْسُنُ قَوْلُهُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ إلَخْ فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَ فِي أَصْلِ الْمَرَامِ.
(وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ) هُوَ دُخُولُ الشَّيْءِ فِي شُبْهَةٍ بِعَدَمِ تَمَيُّزِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ.
(وَ) كَذَا (الِالْتِبَاسُ) فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَبِسَ هَيْئَةَ الْآخَرِ اشْتَبَهَ بِهِ (وَنُفُوذُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُضِيُّ وَبِالْمُهْمَلَةِ التَّمَامُ وَالْفَرَاغُ (وَسْوَاسٌ) اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ بِالْكَسْرِ وَالْوَسْوَسَةُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ وَقِيلَ الْحَرَكَةُ وَالْوَسْوَاسُ اسْمُ الشَّيْطَانِ وَالصَّوْتُ الْجَلِيُّ وَحَدِيثُ النَّفْسِ (الْخَنَّاسُ) الَّذِي يَخْنَسُ أَيْ يَتَأَخَّرُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ أَيْ الْمُخْتَفِي عَنْ الْأَعْيُنِ وَقِيلَ يَخْنَسُ مَرَّةً وَيُوَسْوِسُ أُخْرَى وَقِيلَ أَيْ الرَّجَّاعُ وَعَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ وَقِيلَ كَخُرْطُومِ الْخِنْزِيرِ يَضَعُهُ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ وَيُقَالُ رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ فِي ثَمَرَةِ الْقَلْبِ يَمِينُهُ وَيُحَدِّثُهُ فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ (فِي الْجَاهِلِينَ) أَيْ نُفُوذُ الشَّيْطَانِ فِي الَّذِينَ جَهِلُوا عِلْمَ الْحَالِ وَالْأَعْمَالِ (الْمُتَنَسَّكِينَ) أَيْ الْمُتَكَلِّفِينَ فِي الْعِبَادَةِ بِغَايَتِهَا وَالْمُرَادُ الْعِبَادَةُ مَعَ الْجَهْلِ (وَالْعَالَمِينَ الْغَافِلِينَ) عَنْ مُمَاشَاةِ مُقْتَضَى عُلُومِهِمْ بِانْهِمَاكِ الشَّهَوَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِزَخَارِف الْأَمَانِيِّ الدُّنْيَوِيَّةِ فَتَحْصِيلُهُمْ الْعُلُومَ لِمُجَرَّدِ رُسُومٍ عَادِيَةٍ لِلتَّوَصُّلِ لِأَمْرٍ دُنْيَاوِيٍّ فَيَكُونُ أَصْحَابُهَا مِصْدَاقًا لِحَدِيثِ «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ» .
لِأَنَّ فَسَادَهُمْ سَارَ إلَى الْجُهَلَاءِ فِي التتارخانية عَنْ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ الْعَالَمُ (فِيمَا عَدَاهُمَا) خَيْرٌ لِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ أَيْ فِيمَا عَدَا الْبُغْيَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ (مِنْ الشُّرُورِ) يَعْنِي فِي الشَّرِّ نَوْعٌ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ وَهُوَ الْبُغْيَتَانِ وَنَوْعٌ آخَرُ غَيْرُ خَافٍ أَيْضًا عَلَى الْعَالِمِ الْمُسْتَيْقِظِ وَخَافَ عَلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ وَالْجَاهِلِ الْمُتَنَسِّكِ وَهُوَ غَيْرُهُمَا مِمَّا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً لِتَجَانُسِهِ مَعَ الْعِبَادَةِ وَلَوْ بِحَسَبِ الصُّورَةِ فَيَظُنُّهُ الْعِبَادَةَ عِبَادَةً فَيُفَرِّطُ وَالْعَالِمُ فَيُفَرِّطُ فَيَتَشَابَهُ كُلٌّ لِلْعِبَادَةِ يَذْهَلَانِ فَيَدْخُلُهُمَا الشَّيْطَانُ (فَدَلَّاهُمَا) مِنْ التَّدْلِيَةِ بِمَعْنَى الْإِرْسَالِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِطْمَاعُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ وَالْخُدْعَةُ (بِغُرُورٍ) بِاغْتِرَارِ كَوْنِهِ عِبَادَةً كَانَ الشَّيْطَانُ يُظْهِرُ النُّصْحَ وَيُنْسِي الضُّرَّ مَعَ إبْطَانِ الْغِشِّ فَكَأَنَّهُ حَطَّهُمَا مِنْ مَنْزِلٍ عَالٍ إلَى مَحِلٍّ سَافِلٍ (فَيُفَرِّطُونَ) مِنْ الْإِفْرَاطِ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنْ الْحَدِّ بِالْجَهْلِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَيُكْثِرُونَ (أَوْ يُفْرِطُونَ) مِنْ التَّفْرِيطِ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَالتَّضْيِيعِ إمَّا بِالْغَفْلَةِ بِسَبَبِ تَعَمُّقِ الدُّنْيَا وَإِنْ عَلِمُوا قُبْحَهَا وَإِمَّا بِاعْتِقَادِ كِفَايَةِ الْعِلْمِ الْمُجَرَّدِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ لُزُومِ الْعَمَلِ فَالْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِلثَّانِي
فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الشَّيْطَانُ فِي الْبُغْيَتَيْنِ قُلْت وَإِنْ دَخَلَ فِيهِمَا لَكِنَّ الْإِنْسَانَ عَارٍ بِدُخُولِهِ فَيُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ.
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الشُّرُورِ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ بَلْ يُظَنُّ أَنَّهَا مِنْ الرَّحْمَنِ لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ الْغَافِلِ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِنْ سَوْقِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ احْتِيَاجِ مُطْلَقِ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ الْمُتَيَقِّظِ إلَى هَذَا الْكِتَابِ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ قُلْنَا نَعَمْ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ لِكَوْنِهِ مَاشِيًا عَلَى مُوجَبِ عِلْمِهِ يَجُوزُ عَدَمُ احْتِيَاجِهِ فِي أَصْلِهِ بَلْ لِتَقْوِيَتِهِ