عَنْ الْخَازِنِ {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43] تَسْهِيلًا لِأَفْهَامِهِمْ {وَمَا يَعْقِلُهَا} [العنكبوت: 43] وَمَا يُدْرِكُ فَائِدَةَ ضَرْبِهَا {إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] الَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا يَنْبَغِي.
وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ الْعَالِمُ مَنْ عَقَلَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبَ سُخْطَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ. وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إذَا قَصُرَ فَهْمُ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَزِمَ ضَرُورَةُ مَدْحِهِمْ وَشَرَفِهِمْ لَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فَقَطْ بَلْ مَعَ الْعَمَلِ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ.
وَالثَّامِنَةُ فِي الرُّومِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الروم: 22] فِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ {لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] لَا يَخْفَى عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ إنْسٍ وَجِنٍّ.
وَالتَّاسِعَةُ فِي فَاطِرِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] إذْ الْخَشْيَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْمَخْشِيِّ وَصِفَاتِهِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعِلْمُ ازْدَادَتْ الْخَشْيَةُ.
وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصْرُ الْفَاعِلِيَّةِ وَلَوْ أَخَّرَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ. وَقُرِئَ بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنَّ الْمُعَظَّمَ يَكُونُ مَهِيبًا كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ.
وَعَنْ الْخَازِنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ إنَّمَا يَخَافُنِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي. وَعَنْ مَسْرُوقٍ كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَكَفَى بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا.
وَعَنْ الرُّبَيِّعِ مِنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَعَنْ حَاشِيَةِ شَيْخْ زَادَهْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حَصْرِ الْخَشْيَةِ بِالْعُلَمَاءِ لِدَلَالَةِ إنَّمَا عَلَى الْحَصْرِ وَآيَةِ {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ وَكَوْنُهَا لِأَهْلِ الْخَشْيَةِ يُنَافِي كَوْنَهَا لِغَيْرِهِمْ فَدَلَّ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْجَنَّةِ أَهْلٌ إلَّا الْعُلَمَاءُ. وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْخَشْيَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ أَيْ الْخَشْيَةُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ أَيْ الْعِلْمُ فَالْعِلْمُ مَا يَكُون سَبَبًا لِلْخَشْيَةِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ وَإِنْ عَدُّوهُ عِلْمًا. قِيلَ وَمَا يُقَالُ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ فِي الْعُلَمَاءِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فِيهِ خَشْيَةٌ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ؛ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأُمُورِ إذْ الْخَشْيَةُ جَالِبَةٌ لِكُلِّ خَيْرٍ وَعَدَمُهَا لِكُلِّ مَكْرُوهٍ قَالُوا الرِّعَةُ، وَالْفِقْهُ، وَالِاسْتِقَامَةُ، وَالتُّقَى كُلُّهَا مُسَخَّرَةٌ لِلْخَشْيَةِ فَمَنْ رُزِقَ لَهُ الْخَشْيَةُ مَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ فَإِذَا حُصِرَ ذَلِكَ بِالْعُلَمَاءِ لَزِمَ اخْتِصَاصُ الْفَضْلِ بِهِمْ ضَرُورَةً.
وَالْعَاشِرَةُ فِي الزُّمَرِ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] بَلْ الْعَالِمُونَ فَائِقَةٌ لِمَزِيدِ فَضْلِهِمْ بِسَبَبِ عِلْمِهِمْ هَذِهِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تَدُلُّ كَمَا فِي السَّوَابِقِ عَلَى الْفَضْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَمَلِ إذْ الْكَلَامُ فِي الْعَالِمِ الْمُتَفَرِّغِ لِلْعُلُومِ الْمَنْدُوبَةِ، وَالْعَامِلِ الْمُتَقَاعِدِ لِأَجْلِ فَضَائِلِ الْعِبَادَاتِ فَتَأَمَّلْ.
وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي الْمُجَادَلَةِ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11] قَالَ الْقَاضِي بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ فِي الدُّنْيَا وَإِيوَائِهِمْ غُرَفَ الْجِنَانِ فِي الْآخِرَةِ {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] يَرْفَعُ الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ خَاصَّةً