(ثُمَّ إنْ عُدَّ الْكَيُّ) كَمَا عُدَّ فِي الْعِمَادِيِّ هَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ إشَارَةً إلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْإِشْكَالِ عَلَيْهِ. حَاصِلُهُ تَحْرِيرُ مُرَادِهِ بِالْبَعْضِيَّةِ لَكِنْ حِينَئِذٍ يَضْمَحِلُّ التَّقْسِيمُ فَإِمَّا لَا يَحْسُنُ فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي قِسْمَتِهِ (مِنْ الْمَوْهُومِ لَيْسَ بِيَقِينٍ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمَظْنُونِ بَلْ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ) تَجْرِبَةً أَوْ شَرْعًا (فَلِذَا) أَيْ فَلِكَوْنِهِ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (أُمِرَ) فِي الشَّرْعِ (بِالْحَسْمِ) حَسَمَهُ يَحْسِمُهُ فَانْحَسَمَ قَطَعَهُ بِالدَّوَاءِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ) أَوْ رِجْلِهِ (لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ) لَكِنْ كَوْنُ أَمْرِ الْحَسْمِ فِي الشَّرْعِ دَالًّا عَلَى الْيَقِينِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ كَيْفَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَاقْطَعُوا وَاحْسِمُوا» وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ بَلْ آحَادٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ، وَادِّعَاءُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ سَنَدًا لَهُ بَعِيدٌ، إذْ الْحَسْمُ نَدْبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُرَادُ بِالْمُتَيَقَّنِ فِعْلًا لَا اعْتِقَادًا.
(وَعَدُّ التَّطَيُّرِ مِنْ الْمَوْهُومِ يُوهِمُ الْجَوَازَ) بَلْ يَدُلُّ لِقَوْلِهِ (كَقَرِينَيْهِ) أَيْ الْكَيِّ، وَالرُّقْيَةِ (بَلْ هُوَ حَرَامٌ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ كُفْرًا) لِنِسْبَةِ التَّأْثِيرِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى (ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ) قِيلَ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ صَاحَتْ الطَّيْرُ فَقَالَ رَجُلٌ يَمُوتُ الْمَرِيضُ أَوْ خَرَجَ إلَى السَّفَرِ فَرَجَعَ لِصِيَاحِ الْعَقْعَقِ كُفْرٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا نَقَلَ عَنْ عُمْدَةِ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاؤُلِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الطَّيْرَةِ كَثِيرَةٌ نَحْوُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ وَلَا غُولَ» وَنَحْوُ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (فَظَهَرَ أَنَّ الطِّبَّ لَيْسَ بِفَرْضٍ) وَلَا وَاجِبٍ (بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا) وَقَدْ سَبَقَ مِنْ الْأَحَادِيثِ «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى» . عَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَفِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صِحَّةُ عِلْمِ الطِّبِّ وَجَوَازُهُ وَاسْتِحْبَابُهُ وَرَدٌّ لِمُنْكِرِ التَّدَاوِي كَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ؛ لِأَنَّ فَاعِلَ الْكُلِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّدَاوِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. وَيُحْتَجُّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمِثْلُهُ الْأَمْرُ بِالدُّعَاءِ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَالتَّجَنُّبِ عَنْ التَّهْلُكَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ وَاحِدٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ.
(وَقَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ إنَّهُ) أَيْ الطِّبُّ (فَرْضُ كِفَايَةٍ) لَعَلَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى فَائِدَةِ لَفْظِ عِنْدَنَا آنِفًا لَكِنْ قَدْ سَمِعْت سَابِقًا كَوْنَهُ كَذَلِكَ عِنْدَنَا أَيْضًا أَيْ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.
(تَفْرِيعٌ) نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَحْمُودَةٌ إلَّا بِعَوَارِضَ خَارِجَةٍ، وَالْكَلَامُ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَاتِ، وَالْمُشَاغَبَاتِ وَنَقْلِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي أَكْثَرُهَا تُرَّهَاتٌ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدِّينِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ الْبِدَعِ فَالْآنَ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِدَفْعِ مُبْتَدَعٍ مُخَاصِمٍ.، وَالْعُلُومُ الْغَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ مَحْمُودَةً كَالطِّبِّ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبَدَانِ، وَالْحِسَابِ لِلْمُعَامَلَاتِ وَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ، وَالْفِلَاحَةِ، وَالْحِيَاكَةِ وَسَائِرِ أُصُولِ الصِّنَاعَاتِ لِحَاجَةِ بَقَاءِ الْبِنْيَةِ أَيْضًا فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
وَأَمَّا التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ مَثَلًا فَفَضِيلَةٌ لَا فَرْضِيَّةٌ أَوْ مَذْمُومَةٌ كَالسِّحْرِ، وَالطَّلْسَمَاتِ وَعِلْمِ الشَّعْبَذَةِ، وَالتَّلْبِيسَاتِ وَإِمَّا مُبَاحٌ كَعِلْمِ الْأَشْعَارِ الَّتِي لَا سُخْفَ فِيهَا، وَالتَّوَارِيخِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.
وَأَمَّا الْفَلْسَفَةُ فَالْهَنْدَسَةُ، وَالْحِسَابُ فَمُبَاحَانِ إلَّا إذَا خِيفَ التَّجَاوُزُ إلَى عُلُومٍ مَذْمُومَةٍ. وَالْمَنْطِقُ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ، وَالْإِلَهِيَّاتِ فَمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا لَا يُوَافِقُ فَإِمَّا كُفْرٌ أَوْ بِدْعَةٌ، وَالطَّبِيعِيَّاتُ بَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَجَهْلٌ وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ فَشَبِيهٌ بِنَظَرِ الْأَطِبَّاءِ وَيَقْرَبُ إلَيْهِ كَلَامٌ فِي مُنْقِذِ الضُّلَّالِ كَمَا أُشِيرَ سَابِقًا وَتَمَامُ تَفْصِيلِهِ يُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ.
وَفِي التتارخانية بَعْدَمَا نَقَلَ مَا ذُكِرَ عَنْ الْإِحْيَاءِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ وَأُصُولَ