لِأَنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ مَعْصِيَةٌ وَمُجَاهَرَتُهُ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى لِتَضَمُّنِهَا عَدَمَ الْمُبَالَاةِ وَاتِّبَاعَ الْغَيْرِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ أَيْ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي لَا يُعَافُونَ (وَالظُّلْمُ) سَوَاءٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (الْقَاهِرُ) الْغَالِبُ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ (وَأَدْنَاهَا) أَيْ أَدْنَى بُغْيَةِ الشَّيْطَانِ (التَّثْبِيطُ) الْمَنْعُ وَالتَّعْوِيقُ (فِي) فِعْلِ (الْخَيْرَاتِ) وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّأْخِيرِ فَكُلُّ طَاعَةٍ يَظْهَرُ فِيهَا دَوَاعِي الْكَسْلَانِ وَخِلَافُ النَّشَاطِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ (وَالْحَطُّ) أَيْ التَّسَفُّلُ وَالرِّضَا بِالدُّونِ (فِي الْمَرَاتِبِ) الْعَلِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ (وَالدَّرَجَاتِ) الْعِلْمِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ إلَى أَنْ يَنْزِلَ إلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ بِتَحْسِينِ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَثْقِيلِ عَزَائِمِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَلِيَّةِ.
(وَلَا يَرْضَى بِهِ) أَيْ الْأَدْنَى (إلَّا عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ غَيْرِهِ) مِنْ السَّلْبِ وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ وَلَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ عَدُوًّا مُضِرًّا وَخَصْمًا خَفِيًّا وَقَصْدُهُ أَمْرًا عَظِيمًا وَمُصِيبَةً كَبِيرَةً وَلَزِمَ التَّحَرُّزُ وَالتَّحَفُّظُ وَكَأَنَّ النَّفْسَ مُطَاعَةٌ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى هَوَاهُ وَمُقِرَّةٌ فِي دَعْوَاهُ وَلَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مِحَنِهِ وَحِيَلِهِ إلَّا بِالتَّحَصُّنِ وَالِالْتِجَاءِ إلَى اللَّهِ.
قَالَ الْمُصَنِّف (نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ نَلْتَجِئُ وَقِيلَ أَسْتَغِيثُ وَقِيلَ أَسْتَعْصِمُ وَقِيلَ أَسْتَهْرُبُ وَفِي الْحَقِيقَةِ دَعَا أَنْ يُعَاوِنَهُ أَيْ أَعِذْنِي مِنْ قَبِيلِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَيْ أَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْإِخْبَارِيِّ مَوْضِعَ الْإِنْشَائِيِّ لَعَلَّ وَجْهَهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ صُورَةِ الْأَمْرِ تَأَدُّبًا ثُمَّ فِي التَّعَوُّذِ إظْهَارُ عَجْزِ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ تَعَالَى بَلْ فِيهِ حَصْرُ الِافْتِقَارِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ إلَى اللَّهِ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ حَبِيبَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97] {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 98 - 200] وَ - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1]- الْآيَاتِ (ثُمَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهِ) .
الظَّاهِرُ الْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ جَمِيعِ شَرِّهِ اعْتِقَادِيًّا أَوْ أَخْلَاقِيًّا أَوْ أَعْمَالِيًّا عَظِيمًا كَالْكُفْرِ صَغِيرًا كَتَرْكِ الْأَوْلَى وَفِعْلِ مَا لَا بَأْسَ فِيهِ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ أَوْ فِي أَوْصَافِهِ فَإِنْ قِيلَ كَثِيرًا مَا نَتَعَوَّذُ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْخَلَاصِ مِنْ شَرِّهِ قُلْنَا إنْ لَمْ يَصْدُرْ التَّعَوُّذُ بِشَرْطِهِ كَحُضُورٍ تَامٍّ وَخَشْيَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَتَعَوَّذْ لِعِظَمِ شَرِّهِ أَوْ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ النَّفْسِ لَا مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَبُولِ التَّعَوُّذِ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتٍ آخَرَ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ.
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ شَرْطُهُ سَدُّ سِلَاحِ الشَّيْطَانِ وَمَدَاخِلِهِ فِي الْمَلَكَاتِ الرَّدِيئَةِ وَمُحَافَظَةِ التَّقْوَى وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ اللِّسَانِ رُبَّمَا يَكُونُ آلَةُ الشَّيْطَانِ لِاغْتِرَارِ الذَّاكِرِ بِهِ وَيَذْهَلُ فَيَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَكِنْ لَا يَخْلُو فِعْلُهُ عَنْ حِكْمَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ شَرٌّ مَحْضٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِهِ وَتَسْلِيطِهِ عَلَى النَّاسِ قُلْنَا لَا اطِّلَاعَ لَنَا فِي حِكْمَةِ جَمِيعِ أَفْعَالِهِ تَعَالَى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ تَكْثِيرَ ثَوَابِ الْمُخَالِفِينَ إيَّاهُ لِإِتْعَابِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَهُ إذْ خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ وَصَلَ مَنْزِلَةَ قَتْلِ نَفْسِهِ الْأَمَارَةِ فَأَرَادَ قَتْلَهَا فَنُودِيَ إلَيْهِ بِأَنَّ وُصُولَك الْمَنَازِلَ وَقَطْعَك الرُّتَبَ الْعَالِيَةَ إنَّمَا هُوَ بِمُجَاهَدَتِهَا وَلِهَذَا لَا ثَوَابَ فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ تَلَذُّذِيٌّ.
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ اخْتِبَارُ أَوْلِيَائِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ إذْ مَنْ يَتْبَعْ عَدُوَّهُ يَعْنِي الشَّيْطَانَ لَيْسَ بِوَلِيِّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ بَعْضِ مَا نُقِلَ عَنْ شَرْحِ الشِّفَاءِ لِابْنِ قُبْرُسَ عَنْ شَرْحِ الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ وَأَيْضًا فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ مُحَمَّدٍ الشِّهْرِسْتَانِيّ مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ إبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ بِأَنَّهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْكَافِرِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الْإِثْمُ وَمَا فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ عَوْدِ الْفَائِدَةِ إلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَعُودُ إلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الثَّوَابِ فَقَادِرٌ عَلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَكْلِيفٍ وَمَا وَجْهُ تَكْلِيفِهِ إلَيَّ بِسُجُودِ آدَمَ مَعَ تَكْلِيفِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَا فَائِدَتُهُ مِنْ لَعْنِهِ إيَّايَ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَلِي فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ وَمَا وَجْهُ تَمْكِينِهِ إلَيَّ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَوَسْوَسَةِ آدَمَ وَلِمَ سَلَّطَنِي عَلَى بَنِي آدَمَ وَلِمَ أَمْهَلَنِي فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ حِينَ اسْتَمْهَلْته وَلَوْ أَهْلَكَنِي لَخَلَا الْعَالِمُ عَنْ الشُّرُورِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى