إفَاضَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاسْتِفَاضَتُهُ مِنْ الْآخَرِ لِمُجَانَسَتِهِمَا وَمُؤَانَسَتِهِمَا.
وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَلَعَلَّ لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَّا الْوِجْدَانُ فِي النَّفْسِ وَالْمُشَاهَدَةُ مَعَ أَنَّ فِيهِ كَلَامًا وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الشَّيْطَانِ مَعَ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُفِيدُ إذْ الْكَلَامُ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْمَفْهُومُ عَنْ ظَاهِرِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَسْوَسَتُهُ بِوَضْعِ بَعْضِ آلَاتِهِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ كَوَضْعِ خُرْطُومِهِ عَلَى الْقَلْبِ وَمَسْحِهِ وَجَرَيَانِهِ مَجْرَى الدَّمِ وَبِالْجُمْلَةِ النُّصُوصُ نَاطِقَةٌ وَالتَّأْثِيرُ مُجَرَّبٌ وَالتَّحْرِيكُ مُشَاهَدٌ فَلَيْسَ إلَّا التَّحَفُّظُ وَالتَّحَرُّزُ بِالتَّسَلُّحِ مِنْ نَحْوِ ذِكْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَاتِّقَائِهِ (بِأَقْصَى جَهْدٍ) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ الطَّاقَةُ وَقَدْ يُخَصُّ الْفَتْحُ بِالْمَشَقَّةِ الظَّرْفُ لَغْوٌ بِمَعْنَى السَّبَبِ مُتَعَلِّقٌ بِيَصُدُّ أَوْ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ (مَتِينٌ) مِنْ الْمَتَانَةِ وَالْقُوَّةِ لَعَلَّ الْمَتَانَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَهْدِهِ، أَوْ الْمُرَادُ كَالْمَتَانَةِ فِي ظُهُورِ غَايَتِهِ وَبِكَثْرَةِ مُبَالَاةِ أَهْلِ الْهَوَى وَإِلَّا فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِجَهْدِهِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَاعِدَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَيْضًا عَلَى التَّحْرِيكِ أَصْلًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي لِلْعَبْدِ قُدْرَةً يَصِحُّ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ ثُمَّ الْعَبْدُ بِلَا صُنْعٍ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَصْرِفُ تِلْكَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الصَّرْفِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اللَّا مَوْجُودٌ وَاللَّا مَعْدُومٌ الَّذِي يُسَمُّونَهُ حَالًا قُدْرَةً فِي الْعَبْدِ مَوْجُودَةً تَامَّةً تُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةَ وَيُقَارِنُهُ تَعَالَى بِقُدْرَةِ نَفْسِهِ فَبِمَجْمُوعِ الْقُدْرَتَيْنِ يَخْلُقُ الْفِعْلَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِلَا قَبْلِيَّةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَهُمَا مُؤَثِّرَانِ فِي الْفِعْلِ لَا غَيْرُ فَكُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ مِنْ الْعَبْدِ يُوجَدُ الْخَلْقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى لِفِعْلِ الْعَبْدِ مَشْرُوطٌ بِصَرْفِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ مَدْخَلٌ مِنْ الشَّيْطَانِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَسْوَسَتُهُ مَبَادِئَ وَدَاعِيًا لِذَلِكَ الصَّرْفِ فَكَأَنَّ الْعَبْدَ يُرَجِّحُ بِتَحْرِيكِهِ جَانِبَ الْفِعْلِ أَيْ الشَّرِّ مِنْ رُتْبَةِ التَّسَاوِي فَلَوْ لَمْ يُوقِعْ وَسْوَسَتَهُ جَازَ أَنْ لَا يَصْرِفَ قُدْرَتَهُ إلَيْهِ بَلْ يَصْرِفُ إلَى خِلَافِهِ أَيْ الطَّاعَةِ
فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى مَا ذَكَرْت يَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْ الضَّلَالَةِ وَكَذَا الْهِدَايَةُ فِي الْعَبْدِ إذْ يَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجِدَ اللَّهُ فِعْلَ الْعَبْدِ بِلَا صَرْفِ الْعَبْدِ بَلْ يَفْعَلُ اللَّهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ شَيْئًا بِصَرْفِ قُدْرَتِهِ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ وَإِلَّا فَلَا قُلْنَا لَا كَلَامَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ مُيُولًا وَأَشْوَاقًا مَوْجُودَةً لِكَوْنِهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ فَيُرَجِّحُ الْعَبْدُ بِهَا جَانِبَ صَرْفٍ فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ لَمْ يَصْرِفْ فَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةُ يَعْنِي كُلَّمَا وُجِدَ الصَّرْفُ يُوجَدُ الْخَلْقُ عَادِيَةٌ وَمُلَازَمَةُ الْمَشِيئَةِ ذَاتِيَّةٌ فَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَخْلُقَ الْفِعْلَ بَعْدَ صَرْفٍ بَلْ قَدْ وَقَعَ مُعْجِزَةً لِلْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَةً لِلْأَوْلِيَاءِ كَمَا فَصَّلَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ فَلَا إشْكَالَ فَخُذْهُ فَاسْتَمْسِكْ فِي الْمَوَاضِعِ وَلَعَلَّهُ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْكِتَابِ.
{إِنَّمَا يَدْعُو} [فاطر: 6] أَيْ الشَّيْطَانُ مِنْ الدَّعْوَةِ وَقِيلَ بِمَعْنَى يَقْهَرُ وَيَغْلِبُ ( {حِزْبَهُ} [فاطر: 6] أَيْ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَهِيَ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَلَا يُجِيبُ دَعْوَةَ اللَّهِ الَّذِي يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَلَا يَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ فَدَعْوَتُهُ مَقْصُورَةٌ إلَى حِزْبِهِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ حِزْبِهِ لَا يَمْتَثِلُ وَلَا يُجِيبُ بِدَعْوَتِهِ فَهَذِهِ إمَّا تَعْلِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِلْعَدَاوَةِ لِأَنَّ الْإِيصَالَ إلَى الْمَضَرَّةِ كَالسَّعِيرِ لَيْسَ إلَّا شَأْنَ الْعَدُوِّ بَلْ شَأْنُ الْحَبِيبِ الْمَنْعُ عَنْ نَحْوِهَا أَوْ بَيَانٌ لِمَنْ يَصُدُّهُ عَنْ الْمُتَابَعَةِ السَّابِقَةِ يَعْنِي لَا يَمْنَعُ الْكُلَّ عَنْ مُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ يَمْنَعُ أَحِبَّاءَهُ وَلَيْسَ دَعَوْتُهُ كَسَائِرِ الدَّعْوَةِ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ بَلْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] .
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: تَقْرِيرٌ لِعَدَاوَتِهِ وَبَيَانٌ لِغَرَضِهِ فِي دَعْوَةِ شِيعَتِهِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا وَهُوَ أَيْ الْغَرَضُ لَيْسَ سَوْقَ مَنَافِعِهِمْ كَمَا بَيْنَ الْمُتَحَابِّينَ بَلْ تَوْرِيطُهُمْ وَإِلْقَاؤُهُمْ فِي مُخَلَّدِ الْعَذَابِ فِي رُفَاقَتِهِ وَمُقَارَنَتِهِ.
قَالَ تَعَالَى {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] فَالْعَاقِلُ لَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بَلْ يَتَّخِذُهُ عَدُوًّا وَيَأْخُذ رَدَّهُ مِنْ مُتَابَعَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْهَادِي الدَّاعِي إلَى الْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي الِاعْتِقَادِيَّات وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ عَلَى مَا كَانَ عَهْدُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيْهَا.
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] أَيْ حِفْظَكُمْ أَيْ أَسْبَابَ حِفْظِكُمْ يَعْنِي إذَا كَانَتْ