شُرْبِهِ أَبَدًا قُلْنَا: قَالَ فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ: لَا تَنْحَصِرُ فَائِدَةُ الشُّرْبِ عَلَى دَفْعِ الْعَطَشِ بَلْ يَشْرَبُ لِنَحْوِ التَّلَذُّذِ وَالتَّغَذِّي.
وَقَالَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي السَّعْدِيَّةِ: يَجُوزُ لِلشُّرْبِ نَفْعٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ وَقُدِّرَ لَهُ دُخُولُ النَّارِ لَا يُعَذَّبُ فِيهَا بِالظَّمَأِ أَبَدًا وَقِيلَ: هُوَ اثْنَانِ، فِي الْقِيَامَةِ وَفِي الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: رَأْسُهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَسْفَلُهُ يَكُونُ حَوْضًا فِي الْعَرَصَاتِ وَقِيلَ: مَا فِي الْعَرَصَاتِ هُوَ مَا فِي الْجَنَّةِ يُنْقَلُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْعَرَصَاتِ ثُمَّ مِنْ الْعَرَصَاتِ إلَى الْجَنَّةِ.
وَفِي الْخَبَرِ «يُؤْتَى بِعَالِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَيُرْسِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ جَبْرَائِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى شَطِّ حَوْضِهِ يَسْقِي أُمَّتَهُ بِالْأَوَانِي فَيَسْقِي الْعَالِمَ بِكَفَّيْهِ وَيَقُولُ: كَانَ يَشْتَغِلُ بِالْعِلْمِ حِينَ يَشْتَغِلُ النَّاسُ بِالتِّجَارَةِ» .
(وَالصِّرَاطُ) جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ يَرِدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} [مريم: 71]- «لَا طَرِيقَ لِلْجَنَّةِ إلَّا عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ قَائِمٌ عَلَيْهِ قَائِلًا يَا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ وَالنَّاسُ فِي جَوَازِهِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى حَسَبِ إيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ كَالرِّيحِ وَمِنْهُمْ كَالْجَوَادِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَرُّ مِنْ رِجْلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَبُّ عَلَى وَجْهِهِ»
وَرُوِيَ أَيْضًا «يَكُونُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ وَعَلَى بَعْضٍ مِثْلُ الْوَادِي الْوَاسِعِ بَلْ بَعْضٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَعْلَمُهُ» .
وَفِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ أَفْوَاجٌ الْمُرْسَلُونَ ثُمَّ النَّبِيُّونَ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ثُمَّ الْمُحْسِنُونَ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْمُؤْمِنُونَ الْعَارِفُونَ وَيَبْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ الْمَكْبُوبُ لِوَجْهِهِ وَمِنْهُمْ الْمَحْبُوسُ فِي الْأَعْرَافِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرُوا عَنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَجُوزُ عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَآخَرُ عَلَى أَلْفِ عَامٍ إلَى آخِرِ مَا قَالَ وَعَنْ أَبِي الْفَرَجِ الْجَوْزِيِّ أَكْثَرُ مَنْ يَزِلُّ عَلَيْهِ النِّسَاءُ
(وَشَفَاعَةُ) فِي اللُّغَةِ الْوَسِيلَةُ وَالطَّلَبُ وَفِي الْعُرْفِ سُؤَالُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ مِنْ الشَّفْعِ ضِدُّ الْوَتْرِ كَأَنَّ الشَّافِعَ ضَمَّ سُؤَالَهُ إلَى سُؤَالِ الْمَشْفُوعِ لَهُ كَذَا نُقِلَ عَنْ اللَّقَانِيِّ (الرُّسُلِ) قِيلَ: وَلَوْ رُسُلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كُلِّهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (وَالْأَخْيَارِ) لِدَفْعِ الْعَذَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ عَلَى إجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثٌ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ أَفْنَوْا نَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ فِي الْعِلْمِ لِلْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِهِ أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالشَّفَاعَةِ جَزَاءً وِفَاقًا
وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا «يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]- وقَوْله تَعَالَى - {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]- فَأُجِيبُ بِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالْكُفَّارِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَدِلَّةَ الْمُثْبِتِينَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى - {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]- وَقَوْلُهُ - {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]- وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» وقَوْله تَعَالَى - {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه: 109]- وقَوْله تَعَالَى - {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]- عَلَى طَرِيقِ الْإِشَارَةِ وَأَدِلَّةُ النَّفْيِ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبَارَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَأَيْضًا أَدِلَّةُ النَّفْيِ نُصُوصٌ أَوْ مُفَسِّرَاتٌ وَأَدِلَّةُ الْإِثْبَاتِ مُؤَوِّلَاتٌ أَوْ ظَوَاهِرُ وَقَدْ قُرِّرَ أَيْضًا رُجْحَانُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يُعَارِضُ نَصَّ الْقُرْآنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَنَالُ شَفَاعَتِي أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَمُقْتَضَى جَمْعِ الْأَدِلَّةِ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلِ النَّفْيِ عَلَى نَحْوِ الْكَبِيرَةِ، وَالْإِثْبَاتِ لِلصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقُولُ: الْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ خَبَرُ الْوَاحِدِ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا