فَإِنَّهُ جَعَلَهُمَا نَكِرَةً لِلْمُؤْمِنِ لِيُبَصِّرَهُ وَيُثَبِّتَهُ وَعَذَابًا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِ بَلْ بِالنَّظْرَةِ الْحَسَنَةِ.
نُقِلَ عَنْ الْعِصَامِ النَّكِيرُ أَهْيَبُ مِنْ الْمُنْكَرِ لِدَلَالَةِ الصِّيغَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا جِنْسَانِ وَإِلَّا فَفِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَّفِقُ أَمْوَاتٌ بِأَطْرَافِ الْعَالَمِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْأَلَا الْجَمِيعَ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي تَنْكِيرِهِمَا الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا، لَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْأُخْرَوِيَّةِ كُلِّهَا إنَّمَا هِيَ بِالسَّمْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلدِّرَايَةِ فِيهَا فَإِنَّ أَحْكَامَ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ لَا تُقَاسُ عَلَى أَحْوَالِ الْمِلْكِ وَالنَّاسُوتِ فَإِنَّهَا تَعْجَزُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُصُولِ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حَقِيقَةَ أُمُورِ الْآخِرَةِ مُلْحَقَةٌ بِالْمُتَشَابِهَاتِ ثُمَّ إنَّ السُّؤَالَ هَلْ يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالصِّبْيَانِ نَقَلَ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ السَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ أَنَّهُ نَعَمْ وَقِيلَ: لَا يُسْأَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ الصِّبْيَانُ لِحِكْمَةِ فَاعِلِهِ وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ أَيْضًا كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الدَّوَانِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَالْآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْت تَقُولُ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعٍ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا حِبُّ أَهْلِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَيَقُولُ سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُمْ، لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّك تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ فِيهِ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» .
(وَالْبَعْثُ) وَهُوَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ الْمَوْتَى مِنْ الْقُبُورِ بِإِعَادَةِ الْبَدَنِ الْمَعْدُومِ بِعَيْنِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَيْ أَكْثَرِهِمْ وَبِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُمْ يَرَوْنَ امْتِنَاعَ إعَادَةِ الْمَعْدُومِ كَالْفَلَاسِفَةِ وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ حَشْرَ الْأَجْسَادِ بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الِانْعِدَامِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ وَأَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الْبَعْثِ خَمْسَةٌ ثُبُوتُ الْجُسْمَانِيِّ فَقَطْ لِأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ النَّافِينَ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَثُبُوتُ الرُّوحَانِيِّ فَقَطْ لِلْفَلَاسِفَةِ الْمُتَأَلِّهِينَ وَثُبُوتُهُمَا مَعًا لِأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ وَعَدَمُ شَيْءٍ مِنْهُمَا لِقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَالتَّوَقُّفُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِجَالِينُوسَ وَدَلِيلُ أَهْلِ الْحَقِّ إجْمَاعُ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ الْمُتَكَثِّرَةُ الظَّاهِرَةُ بِحَيْثُ لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى - {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16]- {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]- نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْإِنْصَافَ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ إيمَانِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ إنْكَارِ الْحَشْرِ فَالْمُنْكِرُ كَافِرٌ قَطْعًا.
(وَالْوَزْنُ) هُوَ مُسَاوَاةُ شَيْءٍ بِآخَرَ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ الْمِيزَانُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ وَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْ إدْرَاكِ كَيْفِيَّتِهِ فَنُؤْمِنُ بِهِ وَنُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ وَقِيلَ: تُجْعَلُ الْحَسَنَاتُ أَجْسَامًا نُورَانِيَّةً وَالسَّيِّئَاتُ ظُلْمَانِيَّةً وَقِيلَ: يُوزَنُ الْعَبْدُ مَعَ عَمَلِهِ مَرَّةً بِالْخَيْرِ وَمَرَّةً بِشَرِّهِ وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَزْنِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِتَفَاصِيلِ أَعْمَالِ عِبَادِهِ إظْهَارُ فَضَائِلِ الْمُطِيعِينَ وَمَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِحِ الْعُصَاةِ وَمَثَالِبِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَرَصَاتِ تَتْمِيمًا لِمَسَرَّةِ الْأَوَّلِينَ وَحَسْرَةِ الْآخِرِينَ وَإِظْهَارُ كَمَالِ عَدَالَتِهِ تَحَاشِيًا عَنْ صُورَةِ الظُّلْمِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ عَدَمَ اسْتِحْقَاقِ الْعُصَاةِ لِمَا يُعَذَّبُونَ بِهِ وَمِثْلُهُ فَائِدَةُ الْحِسَابِ وَشَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ وَكُتُبِ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْمِيزَانُ وَاحِدٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ وَسَاقَانِ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]- لِلِاسْتِعْظَامِ قَالَ فِي الْبَحْرِ قَدْ يُذْكَرُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى