وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي وُسْعَةٍ (فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً» الظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْفَاءِ دَاخِلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فَحِينَئِذٍ يُرَادُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْإِدْخَارُ وَاللَّازِمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْإِدْخَارُ الْخَاصُّ فَلَا تَقْرِيبَ نَعَمْ الْخَاصُّ يَسْتَلْزِمُ الْعَامَّ قِيلَ لَكِنْ كَانَ لَا يَبْقَى لَهُمْ بَلْ يُنْفِقُهُ حَتَّى رَهَنَ دِرْعَهُ فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ وَمَاتَ وَهِيَ رَهْنٌ فِيهِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ الِادِّخَارِ هُوَ الْإِبْقَاءُ إلَى سَنَةٍ، وَإِنْ صَدَقَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَعُرُوضِ الْإِنْفَاقِ فِي سَنَةٍ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ
وَقِيلَ ادِّخَارُ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ وَإِلَّا فَالِادِّخَارُ فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ لِغَيْرِ الْمُتَأَهِّلِ وَفَوْقَ السَّنَةِ لِلْمُتَأَهِّلِ مُخَالَفَةً لِلسُّنَّةِ وَمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَهَذَا كَمَا تَرَى تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ فَلَا يَكْفِيهِ الدِّرَايَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الرِّوَايَةِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرْمَةُ ادِّخَارِ الْمَالِ عَلَى مَا زَادَ عَلَى حَاجَتِهِ وَأَرُدُّ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْمُبْتَغَى مِنْ إبَاحَةِ الْكَسْبِ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ حَتَّى الْبُنْيَانِ وَنَقْشِ الْحِيطَانِ وَشِرَاءِ السَّرَارِي وَالْغِلْمَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ عَلَى الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِمُوَجَّهٍ وَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ عَلَى أَنَّ الصَّرْفَ إلَى وُجُوهِ الْبِرِّ مِنْ أَحْوَجِ الْحَاجَاتِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ لَا مَا يَكُونُ لِنَحْوِ التَّفَاخُرِ وَالتَّلَهِّي مِمَّا لَا يُقَارِنُ أَغْرَاضًا حَمِيدَةً ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ الِاخْتِيَارِ كَوْنُ هَذَا الِادِّخَارِ مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْكَسْبِ وَهُوَ بَعِيدٌ فَافْهَمْ.
وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ ثُمَّ قَرَأَ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا تَعَفُّفًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ مَعَ الصِّدِّيقِينَ» (وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ (لِيُوَاسِيَ بِهِ) أَيْ بِالزَّائِدِ (فَقِيرًا) سَوَاءٌ كَانَ لَهُ دُونَ نِصَابٍ أَوْ لَا كَالْمِسْكِينِ (أَوْ لِيُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا) مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَهِيَ مِمَّا عُدَّ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ (فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ) كَالصَّلَاةِ وَالْأَوْرَادِ وَالتِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ ضَمِنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عُلُوِّ كَرَمِهِ قَالَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] كَمَا فِي الْأُصُولِيَّةِ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَازَاةَ الْقَرِيبِ عَلَى مَا فُسِّرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فَكَيْفَ يُعَدُّ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَحَبِّ.
فَإِنْ أُرِيدَ مَا لَمْ يَبْلُغْ إلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُوبِ فَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَقْرِبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ الْمُسَاوَاةُ بَلْ رُجْحَانُ مُوَاسَاةِ مُطْلَقِ الْفَقِيرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ أَوْ بِمَعْنَى بَلْ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] بِمَعْنَى بَلْ يُجَازَى قَرِيبًا فَيَكُونُ تَرَقِّيًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَقِيرًا عَامًّا لِلْكُلِّ وَالْقَرِيبُ مِنْ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ شَامِلًا لِلْقَرَابَةِ النَّسَبِيَّةِ وَالْوُدِّيَّةِ فَيُشَارُ إلَى مَا اُسْتُحِبَّ مِنْ تَعْوِيضِ الْهَدِيَّةِ بِمُمَاثِلٍ لَهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ» (لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ) تُقْصَرُ عَلَيْهِ يَشْكُلُ بِنَحْوِ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُقْتَدَى فِيهَا، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا أَجْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَأَيْضًا بِالْعِلْمِ وَرَاءَ عِلْمِ الْحَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ نَفْلِ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَخُصُّهُ نَعَمْ يَتَبَادَرُ فِي الْإِطْلَاقِ الْعِبَادَةُ إلَى غَيْرِ الْعِلْمِ فِي الْعُرْفِ (وَمَنْفَعَةُ الْكَسْبِ لَهُ) أَيْ الْكَاسِبِ (وَلِغَيْرِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ نَفْعَ الْكَاسِبِ لِنَفْسِهِ أَنَّ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورِيِّ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ زَائِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ لِلتَّلَهِّي وَالتَّبَاهِي فَحَرَامٌ، وَإِنْ لِلتَّنَعُّمِ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ فَمُبَاحٌ فَالْمَنْفَعَةُ الْمُعْتَدَّةُ فِي زِيَادَةِ الْكَسْبِ لَيْسَ إلَّا مَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ وَلَا شَكَّ عَلَى هَذَا أَنَّ نَفْعَ الْعِبَادَةِ لِنَفْسِهِ وَنَفْعَ الزِّيَادَةِ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِهِ فَالظَّاهِرُ رُجْحَانُ مَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّفَلَ أَمْرٌ دِينِيٌّ لَا يُقْصَدُ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرَ كَوْنِهِ طَاعَةً وَالزِّيَادَةُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ وَعَادِيٌّ قَدْ يُقْصَدُ لِغَيْرِ الطَّاعَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُسْنَ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الدِّينِ رَاجِحٌ عَلَى الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْعَادَةِ
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -