هَذَا الْحُكْمِ أَوْ يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ جَوَازَ الِاسْتِيعَابِ أَوْ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَهِمَهُ عَلَى بَقَاءِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ شَرِيعَةً لَنَا وَلَمْ يَقِفْ عَلَى دَلِيلِ الْإِنْكَارِ وَالنَّسْخِ وَيَجُوزُ أَنْ يَفْهَمَ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ هَذَا الْإِفْرَاطِ فِي الطَّاعَةِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ اللُّزُومِيِّ لَا النَّدْبِيِّ ثُمَّ وَجْهُ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَفْعَالَ الشَّاقَّةَ.

فَإِنْ قِيلَ: إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْمَطْلُوبُ لِلْجَمِيعِ قُلْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» وَأَنَّهُ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ عُمُومِ الْعِلَّةِ إلَى عُمُومِ الْحُكْمِ وَلَا شَكَّ فِي عُمُومِ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِلْجَمِيعِ «فَصُمْ» أَيْ تَارَةً لِحَقِّ مَوْلَاك وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ «وَأَفْطِرْ» تَارَةً لِحَقِّ نَفْسِك وَعِرْفَانِ نِعْمَةِ رَبِّك وَإِرْفَاقِ نَفْسِك؛ لِأَنَّهَا مَطِيَّتُك وَلِتَقْوَى إلَى طَاعَةِ رَبِّك لَا لِهَوَى نَفْسِك وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ صُمْ فِي الْأَيَّامِ الْمَأْثُورَةِ لِفَضْلِهَا كَصَوْمِ دَاوُد وَأَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا سَيُشَارُ إلَيْهِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ صَوْمِ الدَّهْرِ.

وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ رَجَّحَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد لَكِنْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ لَا يَصُومُ» وَمِثْلُهُ خَبَرُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا «وَنَمْ» لِاسْتِرَاحَةِ نَفْسِك؛ لَأَنْ تَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك «وَقُمْ» لِلتَّهَجُّدِ وَلِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] الْآيَةُ وَيُحْتَمَلُ نَمْ يَعْنِي كُلَّ بَعْضِ اللَّيَالِيِ وَقُمْ أَيْضًا بَعْضَ اللَّيَالِيِ لَا كُلَّ جَمِيعِ اللَّيَالِيِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ إقَامَةَ كُلِّ اللَّيْلَةِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ عِنْدَهُمْ وَالْمَدَارُ عِنْدَنَا هُوَ التَّيْسِيرُ وَالنَّشَاطُ؛ لِأَنَّ أَمْرَنَا عَلَى التَّوَسُّطِ وَالِاقْتِصَادِ وَالرِّفْقِ وَالْمُطَاقِ.

«وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ» أَيْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الظَّاهِرُ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ لَا لِلْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهُ «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» رُوِيَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ.

وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَوَّلُ الشَّهْرِ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ وَيُقَالُ أَبْهَمَ الثَّلَاثَةَ لِكِفَايَةِ أَيِّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِهِ وَقِيلَ مِنْ آخِرِهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» فَالثَّلَاثَةُ مُعَادِلَةٌ لِلشَّهْرِ «وَذَلِكَ» الثَّلَاثَةُ «مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» يَشْكُلُ إنْ أُرِيدَ تَضْعِيفَ الثَّلَاثَةِ مَعَ تَضْعِيفِ الدَّهْرِ فَالْمُمَاثَلَةُ مُنْتَفِيَةٌ إذْ كُلُّ يَوْمٍ دَهْرٌ فَحَسَنَتُهُ أَيْضًا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ مُخْتَصٌّ بِهَذَا النَّصِّ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الدَّهْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ نَصِّ الْقُرْآنِ وَدَعْوَى أَنَّ صِيَامَ الدَّهْرِ لَا يَكُونُ حَسَنَةً لِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ وَلَوْ كَانَ حَسَنَةً لَا يَكُونُ ثَوَابُهَا مُضَاعَفًا بِالْعَشَرَةِ صَعُبَ سِيَّمَا بِمُلَاحَظَةِ مَا سَمِعْت مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلْيُتَأَمَّلْ.

«قُلْت» يَعْنِي «عَبْدَ اللَّهِ» الْمَذْكُورَ «، فَإِنِّي أُطِيقُ» مِنْ الطَّاقَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ «أَفْضَلُ» أَيْ أَكْثَرُ أَوْ مَا يَزِيدُ فَضْلُهُ «مِنْ ذَلِكَ قَالَ» لَهُ «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «صُمْ يَوْمَيْنِ وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ» «قُلْت» يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ: «فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا» وَهُوَ صَوْمُ دَاوُد الْمُشَارُ إلَيْهِ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَمَأْمُونٌ مِنْ تَفْوِيتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ بَعْدَ تَحْدِيدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَظِيفَتَهُ لَيْسَ إلَّا مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ قُلْت لَعَلَّهُ فَهِمَ الْإِذْنَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالِاسْتِطَاعَةِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يُوهِمُ تَكْذِيبَ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ لَا تَسْتَطِيعُ وَرَدَّهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ بَلْ حِكَايَةِ حَالِهِ وَأَنَّ جَرَيَانَ التَّكْذِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ «فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» وَعَلَى نَبِيِّنَا قِيلَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «، فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ» .

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ إنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُد وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ أَعْبَدَ النَّاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ - {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]- أَيْ صَاحِبُ قُوَّةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْأَوَّابُ الرَّجَّاعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي تَأْثِيرِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الِاعْتِيَادِ تَعَبٌ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا وَلِأَنَّ الِاعْتِيَادَ عَلَى الدَّوَاءِ يُبْطِلُ أَثَرَهُ، وَإِذَا مَرِضَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلِأَنَّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015