وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .
أَرَادَ بِذَلِكَ رَدَّ قَوْمٍ يُرِيدُونَ خِلَافَ مَا ذُكِرَ بِنَحْوِ صَوْمِ الدَّهْرِ أَوْ الِاحْتِرَازِيِّ فَإِنْ بَعْضَ شَيْءٍ يَفْعَلُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوَاصُّ لَهُ كَصَوْمِ الْوِصَالِ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ لِلْأُمَّةِ لِأَنَّهُ إفْرَاطٌ فِي حَقِّهِمْ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَائِلًا إنَّ الْمُرَادَ الْمُقْتَدُونَ فِي إخْلَاصِ النِّيَّةِ وَتَوَسُّطِ الْأَعْمَالِ فَقَطْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ.
(وَالشِّيَمِ) جَمْعُ شِيمَةٍ وَهِيَ الْخَلْقُ وَالْعَادَةُ وَنُقِلَ عَنْ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ هِيَ الْغَرِيزَةُ وَالطَّبِيعَةُ وَالْجِبِلَّةُ الَّتِي خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا انْتَهَى هَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا جَبْرِيًّا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ بَلْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ بَعْضِ الْحَدِيثِ فَلَا يُلَائِمُ قَاعِدَةَ التَّكْلِيفِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَسَبْيٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ غَايَتُهُ أَنَّ أَصْلَهُ ضَرُورِيٌّ، وَأَثَرُهُ كَسَبْيٍ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِتَبْدِيلِ الْأَخْلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِاقْتِدَاءُ وَالْمَدْحُ بِهِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِيَارِيِّ ثُمَّ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْخَلْقِ الْعَادَةُ وَيُرَادَ بِالْعَادَةِ مَا اعْتَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتِقَادًا أَوْ أَخْلَاقًا أَوْ أَفْعَالًا أَوْ أَقْوَالًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَوْ الْعَادِيَّاتِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ إلَّا إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَفِيهِ أَيْضًا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ أَكْمَلَ (مَا دَامَتْ) مُدَّةَ دَوَامِ (السَّمَوَاتِ) جَمْعُ سَمَاءٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ وَتُجْمَعُ عَلَى اسْمِيَّةٍ أَيْضًا (وَالْأَرْضُ) بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ وَالْأَصَحُّ سَبْعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» فَالْإِفْرَادُ لِكَوْنِهَا طَبَقَةً وَاحِدَةً.
نَقَلَ عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ وَفِي الْإِتْقَانِ لِأَنَّ لَفْظَهُ ثَقِيلٌ وَلِهَذَا يُؤْتَى بِمَا يُفِيدُ الْعَدَدَ عِنْدَ إرَادَةِ التَّعَدُّدِ {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْخُلُودِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي مِثْلِهِ أَوْ الْمُرَادُ سَمَوَاتُ الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا لِأَنَّ كُلَّ عُلُوٍّ سَمَاءٌ وَكُلَّ مُسْتَقِرٍّ أَرْضٌ فَفِيهِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107]- (وَمَا تَعَاقَبَتْ) أَيْ مُدَّةَ تَتَابُعِ (الْأَضْوَاءِ) جَمْعُ ضَوْءٍ وَهُوَ الضِّيَاءُ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا وَهُوَ النُّورُ وَهُوَ كَيْفِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ بِنَفْسِهَا مُظْهِرَةٌ لِغَيْرِهَا وَقِيلَ الضِّيَاءُ أَقْوَى وَأَتَمُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]- وَقِيلَ الضَّوْءُ ضَوْءٌ ذَاتِيٌّ وَالنُّورُ ضَوْءٌ عَارِضِيٌّ.
(وَالظُّلَمُ) جَمْعُ ظُلْمَةٍ إمَّا يُرَادُ بِهِمَا حَقِيقَتُهُمَا أَوْ مَحِلُّهُمَا أَيْ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ أَوْ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ أَوْ نَحْوُهُمَا ثُمَّ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعَ مَعْطُوفِهِ إمَّا قَيْدٌ لِلصَّلَاةِ فَقَطْ أَوْ قَيْدٌ لَهَا مَعَ الْحَمْدِ عَلَى التَّنَازُعِ فَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى وَالْمَقْصُودُ هُوَ الدَّوَامُ كَمَا مَرَّ لَا التَّوْقِيتُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْعِبَارَةِ وَبَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ طِبَاقٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ الْحَمْدِ لَهُ تَعَالَى عَلَّلَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الصُّورِيِّ يَعْنِي قَوْلَهُ الَّذِي جَعَلَنَا فَهُوَ بَاعِثُ الْحَمْدِ فَمَحْمُودٌ عَلَيْهِ يَعْنِي إنَّمَا حَمِدْنَاهُ لِأَنَّهُ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ ثُمَّ احْتَاجَ هَذَا إلَى بَيَانٍ أَيْضًا أَشَارَ إلَى عِلَّتِهِ فِي ضِمْنِ الصَّلَاةِ يَعْنِي إنَّمَا صِرْنَا خَيْرَهَا لِأَنَّا أُمَّةُ أَفْضَلِ مَنْ أُوتِيَ إلَخْ أَوْ نَقُولُ لَمَّا قَالَ جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَمٍ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ مِنْ قِبَلِنَا بِاسْتِعْدَادِ أَنْفُسِنَا وَاكْتِسَابِهَا فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُدْخَلٍ مِنَّا بَلْ مِنْ قِبَلِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحِكَمِهِ أَفْضَلَ الْحِكَمِ وَلَمَّا كَانَ هَاتَانِ النِّعْمَتَانِ غَيْرَ مُتَنَاهِيَتَيْنِ وَاقْتَضَتَا شُكْرًا كَذَلِكَ قُيِّدَ شُكْرَيْهِمَا أَعْنِي الْحَمْدَ وَالصَّلَاةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ اللَّا تَنَاهِي أَعْنِي قَوْلَهُ {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ} [هود: 107] إلَخْ.
(وَبَعْدُ) كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْتِي بِهَا فِي خُطَبِهِ وَكُتُبِهِ فَأَتَى لِلتَّبَرُّكِ وَالِاقْتِدَاءِ