فِي مُسْتَحَمِّهِ» مَوْضِعِ اسْتِحْمَامِهِ وَيُقَالُ لِمُطْلَقِ الْمَكَانِ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ «فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ» أَيْ أَكْثَرَهُ قِيلَ عَنْ التَّوْفِيقِ، وَقَدْ عَمَّتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ إلَّا فِي زَمَانٍ طَوِيلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَمَّامِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوَسْوَسَةُ صَرِيحُ الْإِيمَانِ أَوْ مَحْضُ الْإِيمَانِ» فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مَا ذُكِرَ مِنْ الْأُمُورِ الْفَاسِدَةِ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا مُنَازَعَةُ الشَّيْطَانِ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَعْدَ التَّصْدِيقِ بِهَا تَدُلُّ عَلَى صَرِيحِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِهِ وَكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ سَارِقٌ وَالسَّارِقُ إنَّمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مَعْمُورًا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: الشَّيْطَانُ لَا يُوَسْوِسُ لِلْكُفَّارِ لِعَدَمِ إيمَانِهِمْ
وَسُئِلَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةٍ لَا وَسْوَسَةَ فِيهَا لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا وَسْوَسَةَ فِي صَلَاتِهِمْ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتِنَا وَصَلَاةِ الْكُفَّارِ الْوَسْوَسَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ مَعَ الْكُفَّارِ وَسْوَسَةٌ وَمُحَارَبَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُوَافِقُونَهُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يُخَالِفُونَهُ، وَالْمُحَارَبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمُخَالَفَةِ (تَذْنِيبٌ) ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْحِقَ نُبَذًا مِنْ مَبْحَثِ الْوَسْوَسَةِ وَإِنْ عُرِفَ بَعْضُهَا مِمَّا سَبَقَ اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ الْحَوَاسَّ شَيْءٌ يَحْصُلُ مِنْهُ أَثَرٌ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ الْقَلْبُ يَنْتَقِلُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْآثَارِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ دَائِمًا وَتُسَمَّى الْخَوَاطِرَ، وَالْخَوَاطِرُ مُحَرِّكَةٌ لِلرَّغْبَةِ، وَهِيَ تُحَرِّكُ الْعَزْمَ، وَالنِّيَّةُ تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فَالْخَوَاطِرُ مَبْدَأٌ لِلْأَفْعَالِ وَتَنْقَسِمُ إلَى مَا يَدْعُو إلَى الشَّرِّ وَإِلَى مَا يَدْعُو إلَى الْخَيْرِ فَالْمَحْمُودُ إلْهَامٌ، وَالْمَذْمُومُ وَسْوَسَةٌ فَسَبَبُ الْمَحْمُودِ يُسَمَّى مَلَكًا وَالْمَذْمُومِ شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ الْإِلْهَامِ لِلْمَلَكِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ يُسَمَّى إغْوَاءً وَخِذْلَانًا، الْقَلْبُ مُتَجَاذِبٌ بَيْنَ الْمَلَكِ وَالشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِالْمُجَاهَدَةِ أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ سِلَاحُ الشَّيْطَانِ وَكَثِيرًا مَا يَعْسُرُ تَمْيِيزُ إلْهَامِ الْمَلَكِ وَوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ؛ إذْ الشَّيْطَانُ يَعْرِضُ الشَّرَّ فِي مَعْرِضِ الْخَيْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْعَانِ النَّظَرِ، وَلَا يَطَّلِعُ إلَّا بِنُورِ التَّقْوَى، وَلَا يَنْجُو مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ إلَّا مَنْ سَدَّ أَبْوَابَ الْخَوَاطِرِ، وَاخْتَارَ الْعُزْلَةَ وَقَطَعَ الْعَلَائِقَ وَدَاوَمَ الذِّكْرَ ثُمَّ إنَّ الْقَلْبَ إذَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ يَسْتَقِرُّ الشَّيْطَانُ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ الذِّكْرُ مِنْ سُوَيْدَائِهِ بَلْ يَرْجِعُ إلَى حَوَاسِّهِ، وَأَمَّا إذَا صَفَا وَخَلَا عَنْ الشَّهَوَاتِ رُبَّمَا يَطْرُقُهَا الشَّيْطَانُ لَا لِلشَّهَوَاتِ بَلْ لِخُلُوِّهَا عَنْ الذِّكْرِ فَإِذَا ذَكَرَ خَنَّسَ الشَّيْطَانُ ثُمَّ إنَّ الشَّيَاطِينَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمَعَاصِي شَيْطَانٌ يَخُصُّهُ وَيَدْعُوهُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فَالْوَلْهَانُ شَيْطَانُ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ إذْ يَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِعَمَلٍ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ هُنَا
ثُمَّ لِلْوَسْوَسَةِ مَرَاتِبُ أَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَمَلِ الْأُولَى الْخَاطِرُ، وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ الثَّانِيَةُ: الْمَيْلُ وَهُوَ حَرَكَة الشَّهْوَةِ الَّتِي فِي الطَّبْعِ الثَّالِثُ: الِاعْتِقَادُ وَالْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ الرَّابِعَةُ الْهَمُّ وَهُوَ الْعَزْمُ وَجَزْمُ النِّيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَنْدَمَ فَيَتْرُكَ أَوْ يَغْفُلَ لِعَارِضٍ فَلَا يَعْمَلُ أَوْ يَعُوقُهُ عَنْهُ عَائِقٌ، وَالْأَوَّلَانِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا لِعَدَمِ كَوْنِهِمَا تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَيُسَمَّيَانِ حَدِيثَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسُهَا» .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ اخْتِيَارِيًّا يُؤَاخَذُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُؤَاخَذٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَنَدَمًا عَلَى هَمِّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَةِ حَسَنَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ فَإِنَّ هَمَّهُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ إلَّا أَنْ يُكَفِّرَهُ بِحَسَنَةٍ كَمَا عَرَفْت سَابِقًا أَيْضًا فَافْهَمْ هَذَا عُصَارَةُ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِيهِ