الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: عباد الله! فلئن كانت رحلة موسى عليه السلام التي قص الله خبرها رحلة علمية فإن الناس منذ أن كانوا ينتقلون في الأمصار، ويسافرون في البلدان مع اختلاف البواعث والدوافع والرغبات في الأسفار من زيد إلى عمرو ومن عبد إلى آخر، والأصل في السفر الإباحة، ثم يتلبس السفر بعد ذلك حكماً شرعياً بالمقصد الذي من أجله سافر العبد وانتقل وارتحل، والناس في هذا يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ لأن الناس في أنفسهم تختلف اتجاهاتهم ونياتهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فطوبى لعبد يمم البيت العتيق، عليه إزاره ورداؤه يريد أن يأتي بعمرة لعل الله جل وعلا أن يكفر عنه بها الخطايا، وطوبى لعبد يمم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو من الله أن يظفر بركعتين في هذا المسجد المبارك، وطوبى لعبد، وهنيئاً لطالب علم رحل إلى عالم يأخذ عنه علمه، لعل الله أن ينفع المسلمين بعلمه، وأتم الله العافية لرجل ألم به مرض فقصد أرضاً بها أطباء يسأل الله أن يجعل على يدي هؤلاء الأطباء الشفاء، وهنيئاً وطوبى لرب أسرة أخذ أبناءه وأهله وأسرته في أماكن يغلب على الظن ألا يسمع فيها فجور ولا فحش، ولا يرى فيها اختلاط ولا مجون، فروح عن أسرته، ولم يرتكب ذنباً في سفرته.
وطوبى لعبد أراد في سفره أن ينشر العلم، ويدعو إلى الله، ويسهم في المعروف، ويبذل الخير، ويقدم لإخوانه المؤمنين هنا أو هناك ما يعينهم على أمر دينهم ودنياهم.
على أن الحسرة كل الحسرة على عباد أو على أناس أو على رجال يقتر أحدهم على نفسه طوال العام، ويضيق على أهله وعلى نفسه وعلى من تحت يده ينتظر أيام الصيف، فإذا جاء الصيف يمم حانات الغرب والشرق، ومجالس الخمر، ومواطن اللهو، وأماكن المجون، يريد أن يعصي الله جل وعلا بما أنعم الله جل وعلا به عليه، إن الحسرة كل الحسرة والمصيبة كل المصيبة أن يجد الإنسان راحته حين يعصي ربه جل وعلا، هذا والعياذ بالله هو الخسران المبين الذي حذر الله جل وعلا منه، قال ربنا مذكراً: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، وقال ربنا متوعداً: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:13 - 14]، فسبحان من لا تخفى عليه من عباده خافية، الطائعون إذا أطاعوه والعصاة إذا عصوه، لكنه حلم الله جل وعلا على عباده.
عباد الله! من ازدحمت عليه الشهوات وتكاثرت عليه الرغبات وجب عليه أن يوجهها بتذكره لعظمة الرب تبارك وتعالى، وأن يتذكر فضل الله جل وعلا عليه، ونعمائه تبارك وتعالى إليه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، عليه أن يتذكر أن كل لذة دون الجنة فانية، وأن كل بلاء دون النار عافية، عليه أن يتذكر أنه ما من أحد إلا وسيوسد التراب، وتحل عنه أربطة الكفن، ويخلى بينه وبين عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يظلم ربك أحداً، عليه أن يتذكر الموت وسكرته، والقبر ووحشته وظلمته، والنفخ في الصور وفجعته، والصراط وزلته، وأعظم من ذلك كله لو قدر له أن يقبض على لذته المحرمة بأي وجه يلقى الله بعد ذلك؟! عليه أن يؤدب نفسه بأن يتذكر أنه يجب عليه أن يصبر في ترك ما يفنى ليفوز غداً بما يخلد ويبقى، عليه أن يتذكر ما أعده الله جل وعلا للصابرين على طاعته والمنفقين ابتغاء وجه ربهم، قال ربنا وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:5 - 10]، هذا صنيعهم فكافأهم أرحم الراحمين بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]، اللهم قنا شر ذلك اليوم، ولقنا اللهم نضرة وسروراً.
ألا واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام، ذي الوجه الأنور، والجبين الأزهر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، واخصص اللهم منهم الأربعة الراشدين، وارحمنا اللهم معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً وعملاً خالصاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به -يا كريم- منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء، اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ارفع الضر واللأواء عن إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، اللهم عليك بكل عدو للإسلام يا ذا الجلال والإكرام! وخص اللهم منهم اليهود والنصارى يا رب العالمين! اللهم اجعلهم لمن خلفهم آية، ولا ترفع لهم راية يا ذا الجلال والإكرام! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.