أيها المؤمنون! جاءت السنة تحدث عن هذا الخضر كما في البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، وأصل الأمر أن موسى عليه السلام وقف خطيباً في بني إسرائيل يعظهم ويذكرهم، فلما رقت القلوب، وذرفت العيون، وخرج عنهم تبعه رجل من بني إسرائيل فقال: أي نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى الله فقال: لا، فأوحى الله جل وعلا إليه: أن لي عبداً هو أعلم منك، قال: أي رب كيف لي به؟ فأمره الله أن يأخذ حوتاً في مكتل فحيثما فقد الحوت فثم هو، أي: فهو هناك، فأخذ معه فتاه يوشع بن نون، وأخذ حوتاً في مكتل وتوجه صوب ما أمره الله جل وعلا حتى بلغ مجمع البحرين، فأخذ موسى غفوة ليستريح وبقي يوشع الفتى يراقب الحوت، فإذا بالحوت يخرج من المكتل بقدر الله وينزل في البحر، ثم يضرب الله جل وعلا عليه مثل الطاب حتى لا يعبر ولا يتحرك، فعزم يوشع على أن يخبر موسى إذا استيقظ، فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يخبره فمضيا في سفرهما حتى أصاب موسى النصب والتعب فقال للفتى: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، وهنا تذكر الفتى خبر الحوت فقال: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63]، فقال كليم الله وصفيه: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:64]، فلم يثربه ولم يلمه؛ لأن الخطأ وقع من الفتى نسياناً، وكم تحت أيدينا اليوم من الأجراء والعمال والخدم والزوجات والأبناء، ومن كتب الله لنا عليهم الولاية يقع منهم الخطأ والنسيان، فينبغي لمن يهتدي بهدي الأنبياء ألا يثرب على كل أمر، وألا يحاسب على كل خطأ، وإن أراد أن يحزم حيناً فليكن حزمه في غير تعنيف، ومن أراد أن ينصح فليكن المقصود من نصحه التطهير لا التشهير.
الشاهد: أن موسى عاد وفتاه -ومن سنن أنبياء الله: أنهم لا يتكلفون؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وهذا يدل على أن غالب الظن أنهما كانا في صحراء سيناء؛ لأن الآثار لا تبقى إلا على أرض رملية والعلم عند الله-.
عاد موسى وفتاه، فلما عادا وجدا الخضر قد التحف بطنفسة خضراء غطى بها رأسه ورجليه، فوقف موسى عليه وقال: السلام عليك، قال: أنى في أرضك السلام؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، فتعجب الخضر قائلاً: يا موسى! إنك كليم الله، وعندك من علم الله ما لا أعلمه أنا، ولي من العلم من عند الله ما لا تعلمه أنت، فأصر موسى على أن يصحبه، فاشترط عليه الخضر ألا يلجئه إلى حديث، ولا يسأله عن سبب تصرفه حتى يكون هو الذي يبتدئه بالأمر، قال تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، والمؤمنون عند شروطهم، فركبا في سفينة كانت تعبر بالناس من ساحل إلى ساحل، فلما رأى أهل السفينة الخضر عرفوه فقالوا: هذا عبد الله الصالح فأركبوه معكم من غير نوء أي: من غير أجرة، فبينما موسى والخضر في السفينة إذا بعصفور يأتي فيقف على حافتها، ثم ينقر في البحر نقرة أو نقرتين ثم يمضي، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر من البحر، فسبحان من وسع علمه كل شيء، وعليه رزق كل حي، وإليه المصير والمنقلب، لا رب غيره، ولا إله سواه، ثم لم يلبث الخضر أن عمد إلى جهة في السفينة فخرقها، ووضع مكانها لوحاً، فاستشاط موسى غضباً، ونسي الشرط الذي بينهما: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، فذكره الخضر الذي بينهما، فاعتذر موسى أن ذلك قد وقع منه نسياناً، ثم ترك جانب البحر لينزل إلى جانب البر فبينما هما في المدينة التي استقبلتهما إذا بـ الخضر يعمد إلى غلام يلعب مع الغلمان فيقتله عياناً، فأنكر عليه موسى هذا الصنيع؛ لأن كل جبلة البشرية تنكره؛ فالله جل وعلا حرم سفك الدماء في الملل كلها، فقال موسى منكراً على الخضر صنيعه: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، فذكره الخضر بزيادة في الضمير فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75]، فأراد موسى عليه السلام أن يلزم نفسه، قال مجاهد رحمه الله أحد أئمة السلف: كانت الأولى من موسى نسياناً، والثانية شرطاً، والثالثة عمداً، قال له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76]، قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا} [الكهف:77] أي: في سيرهما {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف:77]، وهؤلاء طبعوا على اللؤم، لا يعرفون قدر الناس، ولا يقومون بواجب الضيافة، ومع ذلك سأل الخضر وموسى أهل القرية الطعام، قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77]، لكن القوم طبعوا على اللؤم فأبوا أن يضيفوهما، فكان موسى يرى أن هؤلاء لا يستحقون إكراماً، ولا ينبغي أن يفعل لهم معروف، لكن الخضر عمد إلى جدار يريد أن ينقض -أي: يكاد أن يسقط- فأقامه وعدله وشد بنيانه، فأنكر عليه موسى صنيعه هذا قائلاً: كان الأحرى والأولى أن تجعل من هذا الصنيع طريقاً للأجرة؛ لأن الأجرة طريق للطعام، قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، والمؤمنون عند شروطهم، فقال الخضر لموسى وهو يعلم أن موسى صفي الله وكليمه: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، وليست هناك غضاضة أن يعمل المؤمنون بشروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، لكن لا ينبغي لمؤمن أن يأنف إذا أمضي عليه الشرط كما يقع بين الباعة والمشترين، وكما يقع بين المؤجر والمستأجر، وكما يقع بين الزوج وولي أمر المرأة من شروط في النكاح، وضروب ذلك وأمثاله، فكل ذلك جاء به الشرع، ولا يعد نقصاً في حق أحد، ثم أماط الخضر اللثام عن الأمور كلها، وكشف عن غرائب عديدة، قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فسماهم مساكين رغم أن السفينة ملك لهم، وهذا يدل على أن المسكين قد يملك قوتاً وله دخل، لكن دخله وما يجرى عليه لا يحقق له حاجاته الأساسية، خاصة إذا كان رقيق الحال كثير العيال، وعلى هذا تصرف لهم الزكاة، فمن كان له أحد من جار أو قريب، أو أحد يعلم أن له دخلاً لا يعينه على أن يقوم بشيء لحياته كلها، فهذا من أهل الزكاة الذين يعطون منها شرعاً بنص كلام الله؛ قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60].