يقول الفقير إلى رحمة الله تعالى، الشيخ الإمام العلامة، جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، نفعنا الله به، آمين: الحمد لله الذي أمر بالبر، ونهى عن العقوق، وصلاته وسلامه سيدنا محمد الصادق، المصدوق، وعلى آله وأتباعه يوم إستيفاء الحقوق.
أما بعد: فإني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين، ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات، وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات، ويقطعون الأرحام التي أمر الله سبحانه بوصلها في الذكر، ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر، وربما قابلوها بالهجر والجهر، وقد أعرضوا عن مواساة الفقراء مما يرزقون، وكأنهم لا يصدقون بثواب ما يتصدقون، قد التفتوا بالكلية عن فعل المعروف، كأنه في الشرع، والعقل ليس بمعروف. وكل هذه الأشياء تحث عليها المعقولات، وتبالغ في ذكر ثوابها وعقابها المنقولات.
فرأيت أن أجمع كتاباً في هذه الفنون من اللوازم، ليتنبه الغافل، ويتذكر الحازم، وقد رتبته فصولاً وأبواباً، والله الموفق لما يكون صواباً.
غير خاف على عاقل حق المنعم، ولا منعم بعد الحق تعالى على العبد كالوالدين، فقد تحملت الأم بحمله أثقالاً كثيرة، ولقيت وقت وضعه مزعجات مثيرة، وبالغت في تربيته، وسهرت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها، وقدمته على نفسها في كل حال.
وقد ضم الأب إلى التسبب في إيجاده محبته بعد وجوده، وشفقته، وتربيته بالكسب له والإنفاق عليه.
والعاقل يعرف حق المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخس صفاته، لا سيما إذا أضاف إلى جحد الحق المقابلة بسوء المنقلب.
وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يف بشكرهما.
عن زرعة بن إبراهيم، أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه، فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأوضئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ قال: لا.
قال: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفي عليها؟ قال: (إنها كانت تصنع ذلك بك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تتمنى فراقها) .
ورأى عمر - رضي الله عنه - رجلاً يحمل أمه، وقد جعل لها مثل الحوية على ظهره، يطوف بها حول البيت وهو يقول:
أَحمِلُ أُمي وَهِيَ الحَمالَة ... تُرضِعُني الدِرَةَ وَالعَلالَة
فقال عمر: (الآن أكون أدركت أمي، فوليت منها مثل ما وليت أحب إلي من حمر النعم) .
وقال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها المناسك، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا طلقة من طلقاتها) .
ويقاس على قرب الوالدين من الولد قرب ذوي الرجل والقرابة. فينبغي ألا يقصر الإنسان في رعاية حقه.
قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدُوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولاً كَريماً وَاِخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ وَقُل رَبِّ اِرحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيراً) .
قال أبو بكر بن الأنباري: (هذا القضاء ليس من باب الحكم، إنما هو من باب الأمر والفرض. وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء بإحكام وإتقان.
وقوله: (وَبِالوَلِدَينِ إِحساناً) هو: البر والإكرام قال ابن عباس: (لا تنفض ثوبك أمامهما فيصيبها الغبار) .
(فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ) في معنى أف خمسة أقوال: أحدهما: وسخ الظفر، قاله الخليل. والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي. والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب. والرابع: الاحتقار والاستصغار، من الأفي، والأفي عند العرب: القلة، ذكره ابن الأنباري. والخامس: ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن معنى الأف: النتن، وأصله نفخك الشيء يسقط عليك من تراب وغيره، فقيل لكل ما يستقل.
وقوله: (وَلا تَنهَرهُما) أي: لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجههما.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما.