حال دنياهم فتهلك، لأن الدنيا صغيرة عند الله تعالى، صغير ما فيها. ومهما عظم أهل الدنيا في قلبك فقد سقطت من عين الله تعالى، وإياك أن تبذل لهم دينك لتنال به من دنياهم؛ فلا يفعل ذلك أحد إلا صغر في أعينهم ثم حرم ما عندهم.
وإن عادوك فلا تقابلهم بالعداوة؛ فإنك لا تطيق الصبر على مكافأتهم، فيذهب دينك في عداوتهم، ويطول عناؤك معهم، ولا تسكن إليهم في حال إكرامهم إياك وثنائهم عليك في وجهك وإظهارهم المودة لك؛ فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة واحداً، ولا تطمع أن يكونوا لك في السر والعلن واحد، ولا تتعجب إن ثلبوك في غيبتك ولا تغضب منه؛ فإنك إن أنصفت وجدت من نفسك مثل ذلك، حتى في أصدقائك وأقاربك، بل في أستاذك ووالديك؛ فإنك تذكرهم في الغيبة بما لا تشافههم به، فاقطع طمعك عن مالهم وجاههم ومعونتهم؛ فإن الطامع في الأكثر خائب في المال، وهو ذليل لا محالة في الحال.
وإذا سألت واحدا حاجة فقضاها، فاشكر الله تعالى واشكره، وإن قصر فلا تعاتبه ولا تشكه فتصير عدواة له، وكن كالمؤمن يطلب المعاذير، ولا تكن كالمنافق يطلب العيوب، وقل لعله قصر لعذر له لم أطلع عليه.
ولا تعظن أحدا منهم ما لم تتوسم فيه أو مخايل القبول، وإلا لم يستمع منك وصار خصما عليك، إذا أخطئوا في مسألة، وكانوا يأنفون من التعلم منك، فلا تعلمهم؛ فلا تعلمهم؛ ن فإنهم يستفيدون منك علما ويصبحون لك أعداء، إلا إذا تعلق ذلك بمعصية يقارفونها عن جهل منهم، فاذكر الحق بلطف من غير عنف.
وإذا رأيت منهم كرامة وخيرا، فاشكر الله الذي حببك إليهم. وإذا رأيت منهم شرا، فكلهم إلى الله تعالى، واستعذ بالله من شرهم، ولا تعاتبهم، ولا تقل لهم: لمِ لَم تعرفوا حقي؛ وأنا فلان بن فلان، وأنا الفاضل في العلوم؟ فإن ذلك من كلام الحمقى، وأشد الناس حماقة من يزكي نفسه ويثني عليها.
واعلم أن الله تعالى لا يسلطهم عليك إلا بذنب سبق منك، فاستغفر الله من ذنبك، واعلم أن ذلك عقوبة من الله تعالى.
وكن فيما بينهم سميعا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوفا بمحاسنهم، صموتا عن مساويهم، واحذر مخالطة متفقهة الزمان، لا سيما المشتغلين بالخلاف والجدال.
واحذر منهم؛ فإنهم يتربصون بك - لحسدهم - ريب المنون، ويقطعون عليك بالظنون، ويتغامرون وراءك بالعيون، ويحصون عليك عثراتك في عشرتهم، حتى يجبهوك بها في حال غيظهم ومناظرتهم، لا يقيلون لك عثرة، ولا يغفرون لك زلة، ولا يسترون لك