يريد مالا فترك الحراثة والتجارة والكسب ويتعطل، وقال: إن الله كريم رحيم وله خزائن السموات والأرض وهو قادر على أن يطلعني على كنز من كنوز أستغني به عن الكسب، فقد فعل ذلك لبعض عباده، فأنت إذا سمعت كلام هذين الرجلين استحمقتهما وسخرت منهما، وإن كان ما وصفاه من كرم الله تعالى وقدرته صدقا وحقا، فكذلك يضحك عليك أرباب البصائر في الدين إذا طلبت المغفرة بغير سعى لها، والله وتعالى يقول: (وَأَن لَيسَ لِلإِنسان إِلا ما سَعى) ، ويقول: (إِنَما تُجزونَ ما كُنتُم تَعملون) ويقول (إنّ الأَبرارَ لَفي نَعيم، وَإنّ الفُجارَ لَفى جَحيم) .
فإذا لم تكن تترك السعي في طلب العلم والمال اعتمادا على كرمه، فكذلك لا تترك التزود للآخرة، ولا تفتر؛ فإن رب الدنيا واللآخرة واحد، وهو فيهما كريم رحيم، وليس يزيد له كرم بطاعتك وإنما كرمه سبحانه وتعالى في أن ييسر لك طريق الوصول الى الملك المقيم والنعيم الدائم المخلد، بالصبر على ترك الشهوات أياما قلائل، وهذا نهاية الكرم.
فلا تحدث نفسك بتهويسات البطالين، واقتد بأولى العزم والنهي من الانبياء والصالحين، ولا تطمع في أن تحصد ما لم تزرع، وليت من صام وصلى وجاهد واتقى غفر له.
فهذه جمل مما ينبغي أن تحفظ عنه جوارحك الظاهرة، وأعمال هذه الجوارح إنما تترشح من صفات القلب؛ فإن أردت حفظ الجوارح فعليك بتطهير القلب؛ فهو تقوى الباطن، والقلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد، فاشتغل باصلاحه لتصلح به جوارحك، وصلاحه يكون بملازمة المراقبة.
اعلم أن الصفات المذمومة في القلب كثيرة، وطريق تطهير القلب من رذائلها طويلة، وسبيل العلاج فيها غامض، وقد اندرس بالكلية علمه وعمله؛ لغفلة الخلق عن أنفسهم واشتغالهم بزخارف الدنيا.
وقد استقصينا ذلك كله في كتاب (إحياء علوم الدين) في ربع المهلكات وربع المنجيات، ولكنا نحذرك؛ فإنها مهلكات في أنفسها، وهي أمهات لجملة من الخبائب سواها: وهي الحسد، والرياء، والعجب؛ فاجتهد في تطهير