الشَّافِعِيُّ: يَنْتَقِضُ.
وَأَمَّا إِنْ رَجَعَتِ الْبَيِّنَةُ عَنِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَوْ بَعْدَهُ؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَثْبُتُ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الشُّهَدَاءَ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا بِشَهَادَتِهِمْ؛ فَإِنْ كَانَ مَالًا ضَمِنُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَضْمَنُونَ فِي الْغَلَطِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُونَ الْمَالَ.
وَإِنْ كَانَ دَمًا فَإِنِ ادَّعَوُا الْغَلَطَ ضَمِنُوا الدِّيَةَ، وَإِنْ أَقَرُّوا أُقِيدَ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ، وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَأَمَّا مَتَى يُقْضَى؟ فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى حَالِ الْقَاضِي فِي نَفْسِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ إِنْفَاذِ الْحُكْمِ وَفَصْلِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ تَوْقِيفِ الْمُدَّعَى فِيهِ وَإِزَالَةِ الْيَدِ عَنْهُ إِذَا كَانَ غَبْنًا.
فَأَمَّا مَتَى يَقْضِي الْقَاضِي؟ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْغُولَ النَّفْسِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ، وَمِثْلُ هَذَا عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ عَطْشَانَ أَوْ جَائِعًا أَوْ خَائِفًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعُوقُهُ عَنِ الْفَهْمِ، لَكِنْ إِذَا قَضَى فِي حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ بِالصَّوَابِ، فَاتَّفَقُوا - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَنْفُذُ فِيمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَهُوَ الْغَضْبَانُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَتَى يَنْفُذُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ضَرْبِ الْأَجَلِ وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى نُفُوذِ هَذَا: هُوَ أَنْ يُحِقَّ حُجَّةَ الْمُدَّعِي أَوْ يَدْحَضَهَا. وَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ حُجَّةً بَعْدَ الْحُكْمِ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يَسْمَعُ فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مِثْلَ الْأَِحْبَاسِ وَالْعِتْقِ وَلَا يَسْمَعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ بَعْدَ نُفُوذِ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّعْجِيزَ، وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَقَرَّ بِالْعَجْزِ.
وَأَمَّا وَقْتُ التَّوْقِيفِ فَهُوَ عِنْدَ الثُّبُوتِ وَقَبْلَ الْإِعْذَارِ، وَهُوَ إِذَا لَمْ يُرِدِ الَّذِي اسْتُحِقَّ الشَّيْءُ مِنْ يَدِهِ أَنْ يُخَاصِمَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ فِي رُجُوعِهِ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَيْهِ فَيُثْبِتَ شِرَاءَهُ مِنْهُ إِنْ أَنْكَرَهُ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِهِ إِنْ أَقَرَّهُ - فَلِلْمُسْتَحَقِّ مِنْ يَدِهِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَيَتْرُكَ قِيمَتَهُ بِيَدِ الْمُسْتَحِقِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَشْتَرِيهِ مِنْهُ، فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ. وَإِنْ عَطِبَ فِي أَثْنَاءِ الْحُكْمِ مِمَّنْ ضَمَانُهُ؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ: إِنْ عَطِبَ بَعْدَ الثَّبَاتِ فَضَمَانُهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَضْمَنُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا بَعْدَ الثَّبَاتِ، وَقَبْلَ الْحُكْمِ - فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
قَسَمٌ يَقْضِي بِهِ الْحُكَّامُ، وَجُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْقِسْمِ.
وَقِسْمٌ لَا يَقْضِي بِهِ الْحُكَّامُ، وَهَذَا أَكْثَرُهُ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ.