بَابٌ
فِي الْوَلَاءِ.
فَأَمَّا مَنْ يَجِبُ لَهُ الْوَلَاءُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِهَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى:
; أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَأَنَّهُ يَرِثُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَأَنَّهُ عَصَبَةٌ لَهُ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ وَرَثَةٌ لَا يُحِيطُونَ بِالْمَالِ.
فَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ لَا الَّذِي بَاشَرَ الْعِتْقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ عِلْمِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُبَاشِرِ لِلْعِتْقِ.
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ، قَالُوا: فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَحِقَ نَسَبٌ بِالْحُرِّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ; فَلِأَنَّ عِتْقَهُ حُرِّيَّةٌ وَقَعَتْ فِي مِلْكِ الْمُعْتِقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، أَصْلُهُ إِذَ أَعْتَقَهُ مِنْ نَفْسِهِ.
وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْهُ فَقَدْ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُعْتَقُ عَنْهُ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِلْمُبَاشِرِ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَهُمْ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ; اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ هَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ: لَا وَلَاءَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَهُ وَلَاؤُهُ إِذَا وَالَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَالِيَ رَجُلًا آخَرَ فَيَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ وَلَائِهِ إِلَى وَلَاءِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ لَهُ وَلَاؤُهُ.
فَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَإِنَّمَا هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْحَاصِرَةَ، وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ هِيَ عِنْدَهُمْ لِلْحَصْرِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ (أَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ وَلَاءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِلْمُعْتِقِ فَقَطِ الْمُبَاشِرِ) .
وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ بِالْمُوَالَاةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] .