وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنْ لَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي الْعَقَارِ فَقَطْ. وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي البئر وفي كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا الْمَكِيلَ، وَالْمَوْزُونَ، وَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةُ الشُّفْعَةَ فِي الْبِئْرِ وَالْفَحْلِ، وَأَجَازَهَا فِي الْعَرْصَةِ وَالطَّرِيقِ. وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي الْعَرْصَةِ وَفِي الطَّرِيقِ وَفِي الْبِئْرِ، وَخَالَفَاهُ جَمِيعًا فِي الثِّمَارِ.
وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَصْرِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْعَقَارِ: مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشُّفْعَةُ فِيمَا تُمْكِنُ فِيهِ الْقِسْمَةُ مَا دَامَ لَمْ يُقَسَّمْ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ أَجَازَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ: فَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ» ; وَلِأَنَّ مَعْنَى ضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَالْجِوَارِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعَقَارِ أَظْهَرَ. وَلَمَّا لَحِظَ هَذَا مَالِكٌ أَجْرَى مَا يَتْبَعُ الْعَقَارَ مَجْرَى الْعَقَارِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَنْعِ الشُّفْعَةِ فِي الْبِئْرِ بِمَا رُوِيَ: «لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ» ، وَمَالِكٌ حَمَلَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى آبَارِ الصَّحَارِي الَّتِي تَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، لَا الَّتِي تَكُونُ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ.
وَأَمَّا الْمَشْفُوعُ عَلَيْهِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِشِرَاءٍ مِنْ شَرِيكٍ غَيْرِ مُقَاسِمٍ، أَوْ مِنْ جَارٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ الْمِلْكُ بِغَيْرِ شِرَاءٍ، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، وَالصُّلْحِ، وَالْمَهْرِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّهَا تَجِبُ بِكُلِّ مِلْكٍ انْتَقَلَ بِعِوَضٍ، أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَالشُّفْعَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَبِيعِ فَقَطْ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَفْهُومَهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا فِي الْمَبِيعَاتِ، بَلْ ذَلِكَ نَصٌّ فِيهَا لَا فِي بَعْضِهَا، فَلَا يَبِعْ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَرَأَتْ أَنَّ كُلَّ مَا انْتَقَلَ بِعِوَضٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ الضَّرَرَ فَقَطْ.
وَأَمَّا الْهِبَةُ لِلثَّوَابِ: فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا الشَّافِعِيِّ ; أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ