الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ لِلْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْوِي فِي الْبَرِّ تَارَةً وَفِي الْبَحْرِ تَارَةً ذَكَاةٌ أَمْ لَا؟ .
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: أَمَّا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْخَنْقُ مِنْهَا أَوِ الْوَقْذُ مِنْهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يُرْجَى فِيهِ أَنَّ الذَّكَاةَ عَامِلَةٌ فِيهَا أَعْنِي أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ الظَّنُّ أَنَّهَا تَعِيشُ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُصَابَ لَهَا مَقْتَلٌ.
وَاخْتَلَفُوا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا تَهْلِكُ مِنْ ذَلِكَ بِإِصَابَةِ مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْوَجْهَانِ، وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ فِي الْمَيْئُوسِ مِنْهَا.
وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَيْئُوسَ مِنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَيْئُوسَةٌ مَشْكُوكٌ فِيهَا، وَمَيْئُوسَةٌ مَقْطُوعٌ بِمَوْتِهَا وَهِيَ الْمَنْفُوذَةُ الْمَقَاتِلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَيْضًا فِي الْمَقَاتِلِ قَالَ: فَأَمَّا الْمَيْئُوسَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا فَفِي الْمَذْهَبِ فِيهَا رِوَايَتَانِ مَشْهُورَتَانِ.
وَأَمَّا الْمَنْفُوذَةُ الْمَقَاتِلِ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَنْقُولِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَتَخَرَّجُ فِيهَا الْجَوَازُ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فَيَخْرُجُ مِنَ الْجِنْسِ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَهُوَ الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ عَلَى عَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، أَمْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إِذْ كَانَ هَذَا أَيْضًا شَأْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُتَّصِلٌ قَالَ: الذَّكَاةُ تَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهَا.
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِي الْمَرْجُوِّ مِنْهَا قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهَا فَهُوَ مُتَّصِلٌ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ رَأَى أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إِنَّمَا هُوَ لَحْمُ الْمَيْتَةِ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَسَائِرِهَا أَيْ لَحْمُ الْمَيْتَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ سِوَى الَّتِي تَمُوتُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى مَيْتَةً أَكْثَرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ بِالْحَقِيقَةِ.
قَالُوا: فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقَ التَّحْرِيمِ بِأَعْيَانِ هَذِهِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ لَحْمَ الْحَيَوَانِ مُحَرَّمٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ الذَّكَاةِ فِيهَا، وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ» وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]