قَوْلِهِ فِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ، أَجَازَ الْحَلِفَ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ فِي الشَّرْعِ.
فَإِذًا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بِنَاءِ الْآيِ وَالْحَدِيثِ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَبِأَفْعَالِهِ فَضَعِيفٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ هَلْ يُقْتَصَرُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِيهِ بِالِاسْمِ فَقَطْ ; أَوْ أَيُعَدَّى إِلَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، لَكِنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ فِي الْحَدِيثِ بِالِاسْمِ فَقَطْ جُمُودٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا فِي الْمَذْهَبِ، حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ. وَشَذَّتْ فِرْقَةٌ فَمَنَعَتِ الْيَمِينَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا الْمَذْهَبِ.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ مِنْهَا لَغْوٌ وَمِنْهَا مُنْعَقِدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَا هُوَ اللَّغْوُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا الْيَمِينُ عَلَى الشَّيْءِ ; يَظُنُّ الرَّجُلُ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ فَيَخْرُجُ الشَّيْءُ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَغْوُ الْيَمِينِ مَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَيْهِ النِّيَّةُ، مِثْلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ فِي أَثْنَاءِ الْمُخَاطَبَةِ: لَا وَاللَّهِ، لَا بِاللَّهِ، مِمَّا يَجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَةِ بِالْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ لُزُومَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَبِهِ قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَفِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ: وَهُوَ الْحَلِفُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهِ قَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا مُبَاحًا لَهُ بِالشَّرْعِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي اسْمِ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّغْوَ قَدْ يَكُونُ الْكَلَامَ الْبَاطِلَ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] .
وَقَدْ يَكُونُ الْكَلَامَ الَّذِي لَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ فِي الْآيَةِ هُوَ هَذَا، أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ هِيَ ضِدُّ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ وَهِيَ الْمُؤَكَّدَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُضَادُّ لِلشَّيْءِ الْمُضَادِّ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْحَلِفُ فِي إِغْلَاقٍ ; أَوِ الْحَلِفُ عَلَى مَا لَا يُوجِبُ الشَّرْعُ فِيهِ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَعْتَقِدُ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ ; فَإِنَّمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اللَّغْوَ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى عُرْفِيٍّ فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ الْأَيْمَانُ الَّتِي